كانت جريدة «النهار» بوابتي الواسعة لا الى الصحافة، بل الى المدينة، الى بيروت، المحتضِنة كلَّ الأضداد والتناقضات التي تصنع فرادتها وتميُّزها رغم كثرة السهام والجروح والمحن. قبل «النهار» عملت في إذاعة «صوت المقاومة الوطنية» وجريدة «النداء» ولهما الفضل في تعلمي ألف باء الصحافة، خصوصاً الى جانب أمثال سهيل عبود ونبيل حاوي وملحم أبو رزق وطوني فرنسيس وإلياس شاكر وسواهم، لكن الفارق أننا في تجربة ما قبل «النهار» كنا جميعاً متشابهين، لا مكان للتعدد والاختلاف، طيوراً على أشكالنا نقع. أما في «النهار»، فقد اختلف الحال وتغير، صار التعدد عنوان التجربة، وصارت الكلمة المكتوبة على صفحات النهار أكثر تفاعلاً مع النسيج المديني الثقافي والسياسي والاجتماعي المتنوع. من على منبر الجريدة اللبنانية الأشهر، والى جانب أقلام كبار، مثل غسان تويني وفرنسوا عقل وشوقي أبي شقرا وأنسي الحاج وعصام محفوظ ونزيه خاطر ومي منسى ولورغريب ولاحقاً بول شاوول (وسواهم ممن كانوا قبلنا أو جاؤوا بعدنا) صارت التجربة أكثر احترافاً وغنى، ولعل أجمل ما فيها امتزاج الحلو بالمر، الفرحة بالحسرة، الدهشة بالخيبة، الضحكة بالدمعة وكل الثنائيات المتناقضة التي لا تمثل جريدة رائدة فحسب، بل وطناً يقف دوماً على حبل مشدود بين ثنائية الحياة والموت. وما كان لذاك الخليط من أقلام وأفكار واتجاهات أن يجتمع تحت سقف واحد لو لم يكن على رأس المؤسسة كبير يدعى غسان تويني. خرجتُ من «النهار» إثر تباين مع عميدها، الذي كان يعرف متى وكيف ولماذا يُحب ويخاصم ويجادل ويقبل ويرفض. خرجتُ مُكرهاً لكنني لم أخرج غاضباً، بل متحسراً وسعيداً في آن، رحت أقول لأصدقائي: لا بأس أن يكون في أرشيف الصحافي أو في سيرته المهنية خلافٌ مع كبير بحجم غسان تويني. الخلاف مع الكبار يكبّرك ولا يصغّرك، يضيف إليك ولا ينتقص منك. وما علمته وتعلمته وذقته في «النهار» ذاقه كثيرون سواي وظلوا على ود واحترام كبيرين لإنسان برجال كثيرين ومُفرد بصيغة الجمع (بالإذن من أدونيس). لا تتسع الصفحات للحديث عن تويني الصحافي والسياسي والدبلوماسي، وقبلها كلها عن الانسان الذي حاكى أيوب في ما حلّ به من مصائب ولم يشكها علانيةً حتى لربه، بل ظل متعالياً عليها وأكبر منها جميعاً. ومَن ينسى وقفته أمام نعش ابنه جبران مقدماً دمه الذي سُفك غيلةً وغدراً وامتزج بحبر قلمه، قرباناً لأجل مصالحة وطنية في عزّ الاحتراب الأهلي الذي لم تلتئم جراحه حتى الآن. يمثل تويني ذاك الجيل النادر من القادة النخبويين الذين لا يجيدون الصراخ والزعيق لإرضاء الشرائح الواسعة من العامة، لكنهم يحفرون الجبل بإبرة الوعي والمعرفة. تصير كلمتهم بمثابة خميرة مباركة تصلح لكل زمان ومكان ولكل الأجيال اللاحقة على دروب النضال والمهنة، مهنة المتاعب التي تغدو في لبنان محنة حقيقية ويومية، وهل مَن امتُحنَ من أهل القلم مثل غسان تويني؟ المصير الإغريقي الذي عاشه تويني في تراجيديته الأسرية لم يحل دون بقائه حارساً صلباً من حرّاس الحلم اللبناني في مراحله الأكثر دقة وحساسية ومن دون التخلي عن الالتزام العربي الأعم الاشمل. بفضل حبر تويني وأمثاله صار سقف الحرية أعلى ومداها أكثر رحابة واتساعاً، ولعل أقسى ما في رحيله في هذه اللحظات الحاسمة من تاريخ لبنان أن أمثاله لا يتكررون.