في الوقت الذي كان عالم النصف الثاني من القرن العشرين، الخارج من أتون الحرب العالمية الثانية وواقعها الكئيب، يبحث عن أساطير تحميه من قسوة ذلك الواقع، جاء المخرج جوزف ل. مانكفيتش، أحد أساطين هوليوود في ذلك الحين، ليقول للناس أجمعين: هيا... استيقظوا على الواقع وتعاملوا معه. لم تعد هناك حكايات سندريلا ممكنة. لم يعد أمراء فاتنون يأتون على ظهر حصان أبيض. أمراء الأحلام صاروا اليوم مجرد أناس مثل بقية البشر... بل صاروا عاجزين بفعل ما أحدثته الحرب بهم. بهذا المعنى شكل الفيلم الذي حققه مانكفيتش في ذلك الحين، في عنوان «الكونتيسة الحافية»، صفعة في وجه ما كان تبقى من أحلام وردية، فكان نوعاً من عملية إعادة اعتبار، كئيبة، للواقع. ومن هنا كان سحر هذا الفيلم وقوته، والتباسه أيضاً. إذ حين يكتب شخص مثل فرانسوا تروفو عن «الكونتيسة الحافية» قائلاً: «إننا نخرج من هذا الفيلم من دون أن نكون واثقين من أننا فهمنا حقاً كل شيء. ومن دون أن نكون، حتى، واثقين من أن ثمة ما يمكن فهمه، عدا ما فهمناه. كذلك نخرج منه ونحن شديدو الارتباك بصدد نيات مخرجه. غير أن الذي لا شك فيه - أو تقريباً لا شك فيه - هو الصدق المطلق الذي يكمن خلف هذا العمل ككل، وهو جدة هذا الفيلم وجرأته وقدرته على الإبهار»، حين يقول فرانسوا تروفو مثل هذا الكلام عن «الكونتيسة الحافية»، يصبح من حقنا أن نضع دائماً علامات استفهام حول مشروع فني/فكري/أخلاقي، لا ريب انه مرتبط بزمنه كلياً، لكنه ينفتح على أزمان أخرى. منذ البداية، هنا، لا بد من الإشارة إلى أن جوزف ل. مانكفيتش، كان مثقفاً وخريج جامعة، كما انه قصد برلين بعد انتهاء دراسته الجامعية حين اشتغل مراسلاً صحافياً ومترجماص، ليعود إلى موطنه الأميركي لاحقاً ويجد أخاه هرمان وقد أصبح كاتب سيناريو في هوليوود - وهرمان سيكتب لاحقاً السيناريو الأساس لفيلم «المواطن كين» لأورسون ويلز -. وهكذا خاض السينما ككاتب ومثقف قبل أن يصبح مخرجاً منذ العام 1946. من هنا كان - ولا يزال - في الإمكان التعاطي مع هذا المخرج، من موقع «أوروبي» بعض الشيء، خصوصاً أنه كان «مؤلفاً» لمعظم أفلامه، أي كان مؤلفاً للقصة وللسيناريو اضافة إلى الإخراج. وكان من الواضح انه، في أفلام مثل «الكونتيسة الحافية» يتيح لنفسه فرصة عرض أفكاره عبر تلك الأداة الفنية التي كان يراها رائعة: السينما. والسينما هي، على أي حال، الإطار الذي تدور داخله أحداث «الكونتيسة الحافية»، ناهيك بأن محوراً أساسياً من محاور هذا العمل، يدور من حول النجومية... تلك النجومية التي كانت أسطورة وسحراً نابعين من هوليوود، قبل أن يأتي فنانون من طراز مانكفيتش أو بيلي وايلدر، لتحطيمها... سينمائياً. غير أن «الكونتيسة الحافية» يتجاوز تحطيم النجومية، إلى تحطيم الأسطورة ككل. وهذا البعد يقدم إلينا، هنا، من خلال حكاية تبدأ مع المخرج السينمائي هاري داوز (هامفري بوغارت)، الذي كان يبحث عن بطلة جديدة لفيلم كبير يزمع تحقيقه، حين قادته رياح السفر إلى مدريد في إسبانيا. وهناك يكتشف ذات ليلة، في ملهى مبتذل، راقصة شديدة الحسن تدعى ماريا فارغاس (آفا غاردنر). وإذ يتعرف هاري على ماريا وقد وجد فيها نجمته المنشودة، يكتشف أنها من بيئة اجتماعية وضيعة، لكن هذا لا يمنعها من أن تداعب حلماً قديماً مجنوناً لديها فحواه أن يأتي إليها ذات يوم أمير فاتن يغمرها بحبه وحنانه ويتزوجها. وفيما هي في انتظار ذلك الحلم، تقيم علاقة مع ذاك الذي يرافقها على الدوام وتقدمه على انه ابن عم لها. منذ اللقاء الأول تقوم صداقة عميقة وتعاطف متبادل بين هاري وماريا. وهي، لثقتها العمياء به، توافق على مرافقته إلى هوليوود، على رغم معارضة أهلها، على أمل بأن تحقق هناك أحلامها. لقد أدركت ماريا أن أمامها فرصة، بل أكثر من فرصة، وعليها أن تبيع كل ماضيها لكي تتمسك بها. وبالفعل حين تصل ماريا إلى هوليوود، ويحقق لها هاري آمالها الفنية، يكون النجاح الفوري نصيبها، وتصل إلى ذروة المجد من دون كبير عناء، ومن دون أن تغرق كثيراً في عالم العشاق الذين يحيطون بها من كل مكان، وكل منهم يسعى جاهداً إلى امتلاكها. إن ماريا، على رغم كل شيء، ليست من هذه الطينة. وهي ما زالت، على رغم المجد والنجومية، تتطلع إلى وجود رجل حقيقي وحب حقيقي في حياتها. وهكذا، بعد سلسلة من الغراميات السريعة والإحباطات في هذا المجال، يتحقق حلمها ذات يوم حين تلتقي الكونت الإيطالي تورلانو - فافريني، فيغرم بها ويقرر الزواج منها. وهكذا يبدو أن كلّ شيء بات مضيئاً في حياة هذه المرأة... وتبادل الكونت حباً بحب، وتصبح زوجته وأميرة قلبه. غير أن ما لم تكن قد حسبت حسابه، كانت الحرب، وتحديداً ما خلفته الحرب لدى الكونت الذي كان مقاتلاً فيها وأصيب بجروح تركته عاجزاً. غير أن هذا الواقع، إذا كان قد أحزن ماريا، لم يدفع بها إلى وهدة اليأس: قررت أن تمنح زوجها وأميرها، الولد الذي يرغب فيه والذي - في رأيها - سيجعل حبهما وعلاقتهما دائمين. ولذلك تتخذ لنفسها عشيقاً، من دون أن يعني ذلك بالنسبة إليها أي مساس بحبها لزوجها. غير أن هذا الأخير لا يرى الأمور على هذه الشاكلة حين يكتشف ما فعلت زوجته ويفاجئها مع عشيقها، ولا يكون أمامه إذ بلغ الغضب به مداه، إلا أن يسحب مسدسه ويقتل امرأته حبيبته واضعاً نهاية لحبهما ولكل أحلامهما. إذا كانت الأغنية الفرنسية تقول إن «حكايات الحب تنتهي نهايات سيئة، بصورة عامة» فإن هذا الفيلم يؤكد لنا ذلك... بل يتجاوزه ليقول إن الأحلام الحلوة غالباً ما تنتهي بكابوس. ومن الواضح أن مانكفيتش كان عليه أن يمزج هنا بين الحكاية الخرافية والرواية الهزلية والميلودراما، حتى يطلع بهذا الموضوع الذي يبدو في شكله الخارجي وكأنه ينتمي إلى دراميات نهاية القرن التاسع عشر الأوبرالية، مع انه في أعماقه ينتمي إلى النصف الثاني من القرن العشرين، أي إلى زمن انطفاء الأساطير، الذي سيكون من علاماته مقتل جيمس دين في حادث سير، و»انتحار» مارلين مونرو... ناهيك عن أن الفيلم من الناحية الأسلوبية قد أتى، في بعض لحظاته، كأنه ترجمة بصرية لأدب تيار الوعي، وأسلوب بروست في العودة إلى الوراء. ذلك أن حداثة «الكونتيسة الحافية» النسبية تمثّلت في الكثير من المشاهد التي تراجع بعد زمن من انقضائها، على غرار الحال في «المواطن كين»... وكان هذا جديداً على السينما الأميركية في ذلك الحين، كما كان جديداً عليها أن يأخذ فيلم على عاتقه سبر أغوار حياة امرأة، هي هنا ضحية من ضحايا التطلع إلى النجومية مع المحافظة على صدق ملتبس لا يمكن للآخرين تصديق وجوده. وفي هذا الإطار كان من الطبيعي لنقاد كثر، حين كتبوا عن هذا الفيلم، أن يسهبوا في الحديث، كمرجعية أدبية له، عن شوامخ أدبية تحمل تواقيع بلزاك وستندال وبيرانديللو، من دون الالتفات إلى أي مرجعية سينمائية، مع أن الفيلم غائص في السينما إلى أبعد الحدود! حين حقق جوزف ل. مانكفيتش «الكونتيسة الحافية» في العام 1954، كان في الخامسة والأربعين من عمره، وكان قد تشبّع بمشاهدته السينما الأوروبية، والألمانية خصوصاً، ناهيك بتمرسه المهني الجيد قبل ذلك كمساعد لفريتز لانغ وجون فورد. أما فيلمه الأول «قصر التنين» فكان حققه في العام 1946، لتليه أفلام مميزة مثل «مكان ما في الليل» (1947) و»المرحوم جورج آبلي» (1947) و»الروابط الزوجية» (1949) وخصوصاً «كل شيء عن حواء» (1950)... أما بعد «الكونتيسة الحافية» فأبدع أعمالاً حققت نجاحاً كبيراً (مثل «صبيان ودمى» و»الأميركي الهادئ» و»فجأة في الصيف الفائت») قبل أن تصاب مهنته بنكسة مؤلمة حين حقق «كليوباترا» من بطولة إليزابيث تايلور، الذي اعتبر، منذ العام 1961، واحداً من أكثر الأفلام إخفاقاً، جماهيرياً ونقدياً، في تاريخ الفن السابع. [email protected]