تتحدث الجامعية الأميركية جاكلين روز في كتابها «بروست بين الأمم» عن ألفرد دريفوس، الضابط الفرنسي اليهودي، الذي حكم عليه بالسجن خمس سنوات، بتهمة الخيانة، واعتُبرت محاكمته غير عادلة وعنصرية، رأت اليهودي فيه قبل أن ترى أي شيء آخر. ولعل ظلم المحكمة، التي أرسلت الضابط إلى جزيرة الشيطان، عام 1895، هو الذي أطلق صوت الروائي إميل زولا في رسالته المشهورة «إني أتهم»، ودفع بعدد من الأدباء إلى الوقوف «ضد السامية»، وكان من بينهم مارسيل بروست الشاب، ودعت، لاحقاً، رئيس الوزراء الفرنسي ليون بلوم إلى الحديث عن «البربرية»، وعن أزمة حادة في قيم الثورة الفرنسية. تأملت الباحثة الأميركية «المحاكمة الجائرة» وقرأت وجوهها المتعددة، وانتهت إلى العنوان الثانوي للكتاب: «من دريفوس إلى الشرق الأوسط»، ذلك أن المحاكمة لم تترك «الضمير اليهودي كما كان»، وأيقظت فيه رغبة «الذهاب إلى الوطن». كان دريفوس مؤمناً بقيم العدالة والمساواة والحق وبالقومية الفرنسية، ولم تدعه المحاكمة مع قيمه الكبرى، فاكتشف يهوديته، واكتشف أن إخلاص اليهود لقوميتهم الفرنسية لا يجعل منهم فرنسيين. وانتبه مارسيل بروست، اليهودي الأم، إلى «الظلم العنصري»، لكنه ما لبث أن انصرف إلى إبداعه الروائي وزهد بالسياسة، وتطلع عدد من المثقفين إلى «مجزرة الحق والعدالة»، حال عالم الاجتماع اليهودي إميل دوركايم والشاعر شارل بيغي، ووصل الاحتجاج إلى الروائي الروسي ليون تولستوي... جمعت روز الوقائع المختلفة ووصلت إلى الشرق الأوسط، قائلة ان المحاكمة أيقظت في اليهود حس الغربة والعزلة، فنظروا إلى عنصرية فرنسية تحيط بهم، وقرروا الهجرة إلى فلسطين، كما لو كان في «قضية دريفوس» ما بلوّر وسوّغ المشروع الصهيوني، الذي أخذ صياغة شبه نهائية عام 1898. عاد دريفوس إلى وطنه بعد خمس سنوات، وكتب في منفاه رسائل ومذكرات، وأعيد إليه اعتباره بعد رجوعه، وتحوّلت محاكمته إلى قضية أخلاقية - ثقافية كبرى متعددة الوجوه، إذ هي محاكمة لليهود الفرنسيين جميعاً، وإذ محاكمة اليهود محاكمة للقيم الإنسانية التي بشّرت بها الثورة الفرنسية. وكان في أصوات الاحتجاج ما حاكم العنصرية واللاسامية الارتجال البربري. استأنف الضابط حياته، واستأنف اليهود الفرنسيون حياتهم في مجتمع غير طارد لهم، كانت فيه لهم مواقع مسيطرة في الحياة السياسية والاقتصادية والثقافية، بل إنهم وجدوا في الحزب الاشتراكي الفرنسي، لاحقاً، حاضنة دافئة، منذ أيام الجبهة الشعبية عام 1936، حين كان اليهودي بلوم رئيساً للوزارة، إلى أيام ميتران، الذي كان يقطع إجازته الأسبوعية ليشارك في تظاهرة معادية للسامية في بروكسل. ما خلصت إليه جاكلين روز، وهي تشتق الاحتلال الصهيوني لفلسطين من قضية دريفوس، يطرح سؤالين: هل كان في محاكمة يهودي مفرد، أعيد إليه اعتباره، ما يبرّر احتلال فلسطين، وطرد شعب كامل من أرضه؟ أليس في وضع اليهودي فوق غيره من البشر عنصرية أخرى قادت إلى مجازر فلسطينية متتالية، آيتها ما يجري اليوم في غزة؟ وهل الإنسان في دريفوس أعلى مقاماً من آلاف الأطفال الفلسطينيين الذين تحرقهم آلة الحرب الإسرائيلية؟ تأتي الإجابة أولاً من النسيان، ثم تصحح ذاتها لتصبح: النسيان العنصري، ثم تنبسط واضحة وتتحدث عن عدم الاعتراف بتساوي البشر، فهم يتساوون في الحقوق في الكتب والنظريات، لا في الواقع. زامن المشروع الصهيوني المعقود في بازل «محاكمة دريفوس»، وسبق كتاب هرتزل عن «الدولة اليهودية» صرخة زولا الاحتجاجية، وكان نابليون، الابن البار للثورة الفرنسية، كما يقال، قد دعى اليهود إلى «العودة إلى أرض أجدادهم»، حين هجس باحتلال عكا عام 1899. غير أن الباحثة تقطّع الوقائع التاريخية إلى قطع غير متساوية، وتختار القطعة التي تلبي حسبان النسيان العنصري، وتسمح، تالياً، لأحفاد دريفوس، بأن يطلقوا النار على الأطفال الفلسطينيين، إحقاقاً لحق لا حق فيه، لا تدرك كنهه إلا الأرواح اليهودية «المظلومة». إذا كانت محاكمة دريفوس عنصرية ومعادية للسامية، فما هي صفات المشروع الصهيوني، الذي أسس لإخماد الفلسطينيين حرقاً وتدميراً ونزوحاً؟ لا يتعلق الأمر باللغة، بل بأشكال التربية المؤمنة ب «عدالة القوة»، التي تقسم البشر إلى أسود وأبيض وعربي وغير عربي وفلسطيني وغير فلسطيني، تلك التربية التي تعود إلى القرن التاسع عشر، التي برّرت احتلال الجزائر، وطوّرها المشروع الصهيوني إلى احتلال استيطاني مستديم، محسّن بصناعة الموت. كان إدوارد سعيد، الذي تشير إليه روز باحترام، يردّد جملة أقرب إلى الشعار: مواجهة السلطة بالحق، ويرى في المواجهة جوهر المثقف وقوامه الحقيقي. نظرت جاكلين روز إلى سعيد وبدّلت مواقع كلماته مؤكدة: مواجهة الحق بالسلطة، فالصوت الثقافي الأكاديمي الأميركي سلطة، والإعلام الذي يحتاج إليه المثقف الاحترافي سلطة، كما أجهزة الإعلام الموالية لإسرائيل سلطة، وسواء احتاجت روز إلى هذه السلطات أم لم تحتج إليها، فالسلطة قائمة في «عدم الاعتراف»، فهناك بشر يعترف بهم وبحقوقهم، وبشر يعترف بوجودهم ولا يعترف بحقوقهم. يتبقى للضعفاء: أخلاق التعاطف التي تنظر بشفقة إلى القتيل، ولا تسأل عن قاتله، إن لم تعلن عن إعجابها ببراعة القاتل وقدرته على التصويب الدقيق. تنظر جاكلين روز إلى سعيد بإعجاب وتتأمل بإعجاب قصيدة لمحمود درويش، وتتمنى للشعب الفلسطيني الصبر والقدرة على تحمّل النار والبارود ثم تعود إلى أوراقها لتصف «مأساة الفرد دريفوس». لذا يستهل الكلام به: «جالساً في زنزانته في جزيرة الشيطان على شاطئ غوايا الفرنسية، كان ألفرد دريفوس يخط سطوره الأول في مفكرته اليومية، يوم الأحد 14 نيسان (أبريل) 1895». ماذا يمكن أن تكتب عنه جاكلين روز لو كان الشخص محاصراً بنيران غزة، وإذا كان قد سجن في جزيرة الشيطان، فما هو شكل الشيطان الذي يغرق غزة بالقنابل؟ جعلت جاكلين روز من مارسيل بروست متكأ لتبرّر احتلال فلسطين، ذلك أن كتابها، في معظمه يتجاوز بروست، وحواره «الذهني» مع فرويد وعلم التحليل النفسي، ويتمحور حول «مأساة دريفوس»، من حيث هو مرجع إنساني «مضطهد» وحيد. كان سارتر يقول: يقوم المثقفون بشرح الحقائق البسيطة بكلمات صعبة. استعملت روز الكلمات الصعبة والسهلة والمتساهلة وتوجهت إلى جمهور يهودي وحيد، احتل فلسطين واستمر في مطاردة أبنائها حتى اليوم. إن كلامها معقد وبالغ التعقيد حين تُريد أن «تُشفق» على الفلسطينيين، وبسيط وغنائي وواضح وهي تنظر إلى حقوق اليهود المفترضة.