زادت عودة الاشتباكات الى طرابلس المخاوف المحلية والعربية والدولية من إقحام عاصمة الشمال اللبناني في نفق الأزمة السورية وصولاً الى استيرادها، ما يضع جميع الأطراف المعنية أمام مسؤولياتها سعياً وراء البحث عن حلول جذرية بدلاً من التدابير والإجراءات الأمنية الموقتة أو الطارئة التي سرعان ما تختفي من الوجود مع تجدد الاشتباكات التقليدية بين منطقتي باب التبانة وبعل محسن، وسط ارتفاع وتيرة الحديث عن تناغم بين بعض القوى المتواجدة فيهما يدفع في اتجاه تسعير الاختلاف وتعميق الهوة. ويؤكد المراقبون المواكبون الجهودَ الرسمية والسياسية الآيلة الى خفض التوتر الذي يهدد التهدئة الهشة، أن الحلول الناجعة ليست في يد معظم الأطراف التي تتبادل القصف، وأن القرار السياسي لتضميد الجرح الذي ما زال ينزف في طرابلس هو في مكان آخر، وبالتالي فإن التدابير سرعان ما تسقط فور تجدد الاشتباكات. ويضيف هؤلاء: بأن المشهد السياسي والأمني في طرابلس لم يتبدل، وأنه ما زال على حاله سواء بالنسبة الى اضطرار رئيس الحكومة نجيب ميقاتي للانتقال الى مسقط رأسه في عاصمة الشمال وترؤسه الاجتماعات الوزارية والنيابية والأمنية الموسعة، في محاولة للسيطرة على التوتر، أو في خصوص الاتصالات التي يتولاها مفتي طرابلس والشمال الشيخ مالك الشعار الذي بات يشعر بمرارةٍ نتيجة عدم جدولة الإجراءات لوقف الاشتباكات التي يخشى ان تتوسع رقعتها في اتجاه مناطق أخرى. ويرى المراقبون ان التحرك لتحقيق مصالحة شعبية وسياسية بين باب التبانة وبعل محسن، أمر ضروري وملح، لكنهم يسألون عن الجهة التي تملك زمام المبادرة لإنجازها، وهل هي مستعدة لتقديم تنازلات متبادلة لمصلحة الاستقرار في طرابلس وحماية السلم الأهلي، على قاعدة تحويل المدينة الى مدينة منزوعة السلاح وخالية من المسلحين؟ العوائق ليست محلية ويلفت المراقبون الى ان لا عائق محلياً أمام تحقيق المصالحة التي كانت أنجزت في السابق ولقيت دعماً من زعيم تيار «المستقبل» رئيس الحكومة السابق سعد الحريري ورعاها المفتي الشعار، لكنهم يؤكدون في الوقت ذاته أن الظروف الراهنة تغيّرت عما كانت عليه في السابق، والسبب في الدرجة الأولى الأحداث الجارية في سورية وإصرار النظام فيها على توجيه الاتهامات لجهات عربية والى «المستقبل»، بذريعة احتضان المعارضة السورية، من دون أن يغيب عن باله استحضار تنظيم «القاعدة» وما يسمى بالمجموعات الإرهابية بغية استحضار مشهد سياسي وأمني من نوع آخر في منطقة الشمال اللبناني. ويرى هؤلاء أن إعادة الهدوء الى طرابلس تتطلب اتخاذ القرار السياسي الحاسم على المستويين الرسمي والمحلي بدعم دور القوى الأمنية الشرعية، وعلى رأسها الجيش اللبناني لبسط سيطرته على مناطق التوتر. ويضيف المراقبون: أن المشكلة في طرابلس ليست في فلتان السلاح فحسب، وإنما في اتخاذ قرار واضح برفع الغطاء السياسي عن المخلين بالأمن والعمل بموجب اللوائح التي تم تبادلها في الاجتماع الذي رأسه ميقاتي ليل أول من أمس وفيها عدد من الأسماء المتورطة في توتير الأجواء وهي موزعة على باب التبانة وبعل محسن. المدينة الرهينة ويحذرون أيضاً من لعبة إظهار القوى السياسية في طرابلس، لا سيما الفاعلة منها، وكأنها عاجزة عن الإمساك بزمام المبادرة لقطع الطريق على المخلين بالأمن الذين حولوا المدينة الى رهينة يرفضون الإفراج عنها من دون أن يحددوا طبيعة «الفدية» السياسية التي يطالبون بها. ويتابع هؤلاء: أن من يتلاعب بأمن طرابلس وسلامة أهلها يحاول أن يوحي ان المرجعية السياسية فيها هي بيد العناصر المتشددة والمجموعات الإرهابية التي لديها مشاريع سياسية لا تتفق وخطاب التسامح والاعتدال الذي تميزت به هذه المدينة رغم ما تعرضت له من مداخلات خارجة عن رغبة أهلها. ويؤكدون أيضاً أن من يراهن على تحويل طرابلس الى مدينة مضطربة يحاول أن يوحي أيضاً أنها خرجت عن إرادة قواها السياسية وعلى رأسها «المستقبل»، وان من يتحكم بمصيرها هي مجموعات لديها مشاريع أخرى. وفي هذا السياق، يسألون عن صاحب المصلحة في ضرب البنية السياسية لطرابلس وتزوير خطابها السياسي، وهل لما يحصل فيها من علاقة بدعوة رئيس الجمهورية العماد ميشال سليمان الى استئناف الحوار الوطني في الحادي عشر في هذا الشهر؟... كما يسألون عن الجهة التي تراهن على استغلال الوضع المأسوي من أجل ربطه بالحوار، من خلال إدخال تعديل على جدول أعماله وتقديم ما يحصل في طرابلس على أنه بسبب انتشار ظاهرة السلاح خلافاً للسلاح الآخر المنتشر في مناطق أخرى؟ ويعتقد المراقبون أن الوضع في طرابلس سيبقى مراوحاً بين «هبة باردة وأخرى ساخنة» وانه يتجاوز جدول أعمال الحوار الى ما هو أبعد منه وبات يرتبط مباشرة بإصرار البعض على استيراد الأزمة في سورية الى لبنان ولحسابات خاصة، وإلا لماذا يصر رئيس الحزب الديموقراطي العربي رفعت عيد على التذكير من حين الى آخر، ومع اشتداد التأزم في طرابلس، بقدرة الجيش السوري على حفظ الأمن وأن هناك حاجة اليه في هذه الظروف الصعبة. طرابلس... والحوار لذلك، فإن الفلتان الأمني في طرابلس سيطغى على التحضيرات لاستئناف الحوار في ظل تزايد الحديث على أن قوى 14 آذار باقية على موقفها منه، لكنها قد تضطر الى مراعاة رئيس الجمهورية وتتخذ قرارها في اللحظة الأخيرة بإعادة النظر في موقفها الرامي الى ربطه برحيل الحكومة. وعلمت «الحياة» ان قوى 14 آذار تشارك رئيس الجمهورية في معاناته من جهة، وفي شكواه الدائمة من الشلل الحاصل في البلد تحت ضغط انعدام الانسجام في داخل الحكومة الذي حال حتى الساعة دون استكمال التعيينات الإدارية وعدم الاتفاق على مخرج للإنفاق الحكومي. ويقول مصدر بارز في المعارضة إن قوى 14 آذار تقدّر لسليمان دوره الإيجابي في سياسة النأي بلبنان عن الأحداث الجارية في سورية أو تلك التي تتفاعل في المنطقة، وتتعامل معه على أنه يميّز نفسه عن معظم المكونات التي تتشكل منها الحكومة، مشيراً في الوقت ذاته الى ملاقاته مواقف رئيس «جبهة النضال الوطني» وليد جنبلاط في منتصف الطريق، وخصوصاً في رفضه معظم ما ورد في رسالة مندوب سورية الدائم لدى الأممالمتحدة السفير بشار الجعفري، أو في نفيه ضلوع جهات عربية في تهريب السلاح الى المعارضة في سورية عبر الحدود اللبنانية. ولا يجد المصدر نفسه مانعاً لدى 14 آذار، نتيجة تقديرها مواقف رئيس الجمهورية، في تسليفه موقفاً يقضي بمشاركتها في جلسة الحوار التي يمكن ان تكون «يتيمة»، على أن يعقبها مشاورات ماراتونية يتولاها سليمان مع جميع الأطراف المعنية. ويؤكد المصدر أن مشاركة «14 آذار»، التي ستكون موضع مشاورات بين قياداتها الرئيسة، تعني الاستجابة لرغبة رئيس الجمهورية، مع أن الحوار سيواجه صعوبة في توفير الحلول للمشكلات العالقة ولن يؤدي الى حلول سحرية بين ليلة وضحاها. ويضيف: ان سليمان من موقعه يبقى الأقدر على رعاية الحوار، وأن ما يهمه إطلاق المسار الحواري من دون أن يعني بالضرورة ان 14 آذار قررت التنازل عن موقفها أو التراجع عن مطالبها، بمقدار ما أن الجلوس إلى الطاولة يساهم في تنفيس أجواء الاحتقان ويعيد التواصل بين الأطراف ولو بحدوده الدنيا، وبالتالي يمهد الطريق للبحث في إخراج البلد من نفق استيراد الأزمة السورية الى لبنان. الاعتبارات الأمنية والحوار لكن المصدر يستبعد مشاركة بعض القيادات في المعارضة، ليس من باب الاعتراض على دعوة سليمان وإنما لأن لتوقيته اعتبارات أمنية لا تسمح لها بالمغامرة والتوجه الى بعبدا للمشاركة في حوار يفسح في المجال أمام قيام رئيس الجمهورية بمشاورات ثنائية من شأنها ان تؤخر الدعوة لالتئام الجلسة المقبلة. وعليه، فإن فريق «14 آذار» لن يتردد في نهاية المطاف بأن يقول «نعم» لدعوة سليمان، لكنه لن يشارك في «حوار للحوار»، خصوصاً انه يسأل عن الأسباب الكامنة وراء دعوة الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله الى تحويل هيئة الحوار الى هيئة تأسيسية، وما إذا كانت دعوته تهدف الى تجاوز اتفاق الطائف وصوغ دستور جديد، أم انها لتقطيع الوقت مع التمسك ببقاء الحكومة وعدم مقاربة سلاح الحزب في سياق البحث في حل لمشكلة السلاح كلاً، ويؤكد أيضاً بأن لا مشكلة مع سليمان وإنما مع الذين حالوا دون تنفيذ ما أجمعت عليه هيئة الحوار في السابق.