يغيب عن أذهاننا في كثير من الأحيان أن هناك علاقة رئيسة ومهمة بين السلم الاجتماعي، وأقصد بذلك انتشار الشعور بالأمن والطمأنينة في الأماكن العامة والخاصة وبين التنمية الاقتصادية، وتحديداً الشق المتعلق بقطاع الخدمات الذي تعتمد عليه الدول كثيراً في خلق فرص العمل الجديدة، وما أحوجنا إليها... المقصود بالسلم أو الأمن الاجتماعي هو ممارسة الحياة خارج المنازل في أجواء آمنة ومسالمة يخضع الجميع تحتها إلى طائلة القانون، وهذا لا يحتاج إلى الكثير من التفسير، فمن المعروف أن رؤوس الأموال التي تبحث عن استثمارات تتصل بالترفيه والتسوق وخدمات الضيافة والسياحة وغيرها، تهتم كثيراً بهذا الموضوع كونه السبب الأهم في إقبال الناس على هذا الاستثمار، والعكس صحيح في جميع الأحوال، في المملكة لم نصل بعد إلى المستويات المتقدمة في موضوع السلم الاجتماعي ولا أدل على ذلك من غياب الاستثمارات الكبرى عن آليات الاقتصاد السعودي إلى يومنا هذا. أمضيت في منطقة البافاريا وسط المانيا كل الأيام العشرة الماضية بين ميونيخ وسالزبرج النمساوية ولم ألحظ وجود أي شرطة أو أفراد من الأمن الخاص في المنشآت في عموم الأماكن والساحات العامة التي تغص بالسواح من كل أنحاء العالم. تجانس هائل وارتياح وطمأنينة وهدوء وارتياح عام يلاحظه المراقب في وجوه الناس. الشعوب الأوروبية بشكل عام أصبحت متصالحة إلى حد كبير مع سلوك أفرادها وتقبل اختلاف هذا السلوك بما لا يتدخل في حرية البقية. حقوق الجميع مصانة تحت طائلة القوانين، لا توجد مناطق رمادية تسمح بتدخل هذا الفرد أو هذه الهيئة بمصالح الآخرين ما لم يتم ارتكاب مخالفة صريحة يفهمها مرتكبها قبل أي فرد آخر، لذلك، وهذا ما يهمني هنا، فإن المتاجر والمقاهي والمسارح والمتاحف ومراكز الترفيه للعائلة والأطفال ومراكز المؤتمرات العالمية أصبحت تسير كما تسير الآلة الأوتوماتيكية في نموها ودخلها الاقتصادي الذي يستفيد منه أبناء تلك المدن. ما حدث في أوروبا يحدث أيضاً في دبي، وهي التي تحولت إلى مركز مالي سياحي، أخذ مكانته العالمية اليوم، وأصبحت هذه الإمارة الفتية واحدة من بين إحدى أهم وجهات السفر في العالم. أقول حتى في دبي أصبح الكل يمارس ويعايش هذا النمط من التصالح الاجتماعي الذي يؤدي إلى تأصيل هذا السلم الاجتماعي الذي اخترته موضوعاً لهذا المقال. تخيلوا في المقابل لو أن أوروبا أو دبي انشغلت ب «فتاة المناكير» أو بمجموعة «المفحطين» أو ب«إغلاق مراكز التسوق أمام الشباب» ثم فتحها لهم من جديد، هل كان اقتصادهم وتنمية مهارات الأفراد لديهم في العمل وصلت إلى ما هي عليه اليوم؟ والتساؤل الأهم هل كان سيزورهم أحد وينفق كل مدخراته في بلادهم ومنشآتهم ويحدث مع هذا التصرف المعدلات الإيجابية في مؤشراتهما الاقتصادية؟ هذا هو الربط الذي أريد أن أصل إليه... التنمية الحقيقية القادرة على التنوع في خلق فرص العمل وبالتالي التنافس والإبداع، تحتاج إلى بيئة متصالحة مع نفسها، مثل هذه البيئة لا يمكن أن تتوفر من دون وقوف الحكومة بجميع هيئاتها ومصالحها في دعمها وتثبيت أركانها، إذاً السؤال الذي يطرح نفسه: أين هذا الدعم؟ أين العناصر الأهم في خلق بيئة كهذه؟ أين القوانين المتعلقة بالحقوق الشخصية؟ أين قوانين التحرشات والاعتداءات على الغير؟ أين قوانين العمل الصارمة التي تقف في جانب رب العمل بقوة وصلابة وقوفها بجانب العامل؟ الذي نراه ونعاني منه ببالغ الأسف، إن الكثير من ذلك لا وجود له في مجتمعنا، فتعطيل المشاريع قد يأتي من أي جهة حكومية ولأتفه الأسباب، وجود قضية تحرش واحدة قد تصبح حديث الوطن برمته ولأيام عدة بسبب ضبابية القوانين. المناقشة حول مدة إغلاق المحال التجارية لأداء الصلاة أصبحت مناقشة بيزنطية من دون وجود نهاية لها. طالبنا بتقنين المدة حماية للمتسوقين وتشجيعاً للتجار ولا يزال البائع يغلق لمدة تقترب من الساعة الكاملة ليس لتأدية الفريضة بل لربما للذهاب إلى مكان آخر وأخذ وقت للراحة على حساب من ينتظره. أتمنى أن نتوغل كثيراً في موضوع الربط بين التنمية الاقتصادية التي نحتاج إليها على كل الأصعدة وبين غياب هذا السلم والأمن والأجواء المشجعة على ممارسة الحياة والإنفاق والتنافس والإبداع... أتمنى أن ندرك أنه لن يكون بمقدورنا تنويع الآلة الاقتصادية القادرة على استيعاب أعداد السعوديين المتخرجين والباحثين عن العمل من دون العمل على إيجاد البنية التحتية للاقتصاد وللحال الاجتماعية المحيطة به... أتمنى أن ندرك أن الفوضى والضبابية لن تنتج معها تنمية وبالتالي سنتحسر في المستقبل القريب عندما نكتشف مجدداً أن لدينا ثلاثة ملايين طالب وطالبة عمل ولا يوجد لهم أي فرص يلتحقون بها. * كاتب سعودي. [email protected] f_deghaither@