تميزت السنوات الخمس الأخيرة بارتفاع مداخيل النفط، والذي بدوره رفع من قدرة الدولة على الإنفاق بشكل ووتيرة غير مسبوقة في تاريخ المملكة. المشاريع التي نراها أمامنا ضخمة بكل المقاييس من جامعة الأميرة نورة والتي يتردد بأن تكاليفها تجاوزت الثلاثين بليون ريال إلى الطرق والأنفاق والمطارات والمنشآت الرياضية والمستشفيات والجامعات وغير ذلك. المعروف أيضاً أن أي مشروع لابد وأن يتبعه عقد صيانة وتشغيل حتى يحافظ على جودته ويقدم الخدمة ويؤدي الغرض الذي تم التشييد من أجله. والمعروف كذلك أن معدل تكاليف الصيانة بشكل عام تصل في المعدل إلى 10 في المئة من كلفة المشروع. هذا يقودنا إلى حقيقة غاية في الأهمية وهي أن كل بليون يتم إنفاقه على أي مشروع «اليوم» سيعني رصد مائة مليون ريال «سنوياً» لصيانته. هذا الموضوع يدفع أي مراقب إلى نوع من الحيرة في محاولة تقدير وتحديد مصادر الدخل اللازمة لصيانة هذه المشاريع العملاقة في غياب الشفافية اللازمة والتي توضح مثل هذه البنود. السؤال المقلق حقيقة: من أين نأتي بالأموال اللازمة لصيانة هذه المشاريع في غياب أنظمة اقتصادية تعتمد على تنويع مصادر دخل البلاد؟ اقتصادنا ريعي بامتياز، بمعنى أننا نقوم بالإنفاق على كل شيء تقريباً. المواطن لا يدفع شيئاً مقابل استخدامه لهذا الصرح أو امتطائه لهذه الطريق السريعة أو التحاقه بهذه الجامعة أو تلك، أو تنويمه وعلاجه في أي مستشفى حكومي. أنا أرجح أن تكاليف الصيانة والتشغيل ستكون باهظة جداً. وأرجح توجه وزارة المالية إلى محاولة إقلالها إلى أدنى حد ممكن. هذا سيعني تلقائياً تدني مستويات هذه المشاريع في فترة قصيرة جداً، وربما تقصير عمرها الافتراضي إلى النصف. والأدلة على ذلك كثيرة ولا تخفى على أي متابع، فكم من مبنى أو مستشفى أو طريق للتو يتم افتتاحه وما هي إلا أشهر عدة حتى ترى مستويات الخدمة بدأت بالهبوط المرعب. السبب أن مستويات مقدم الخدمة ومتعهد الصيانة ليست على مستوى المنشأة. فماذا لو أن هذه المنشأة تفرض رسوماً معينة ولديها مصادر دخل غير تلك التي تأتيها من الحكومة؟ تماماً كما نرى في الفنادق الفخمة وبعض المستشفيات الخاصة. من هنا أرى والرأي الأهم لذوي الاختصاص بالطبع، أن الوقت قد آن لإعادة النظر في طبيعة وهيكلة الاقتصاد السعودي بشكل عام. علينا البدء في تحويل دوران العجلة الاقتصادية إلى عجلة منتجة وليست مستهلكة فقط، وعلينا أن نفكر من الآن بفرض رسوم رمزية على مستخدمي الطرق السريعة، ورسوم رمزية على طلاب الجامعات مقابل حصولهم على العلم. وهنا أتساءل: إلى متى والحكومة تدفع للطالب راتباً شهرياً مقابل حصوله على التعليم؟ في أي عصر نعيش؟ ألا يكفي أن التعليم مجاني؟ لو بدأنا نفكر بتطبيق هذه المبادئ على ضآلة مداخيلها في البداية فسنفكر فيما بعد بما يعرف بضريبة القيمة المضافة أو «VAT»، ثم نجد أنفسنا أمام ضرورة سن القوانين والتشريعات والعقوبات اللازمة لتطبيقها بنزاهة. هذا العمل بحد ذاته يعتبر إنجازاً لأنه بمثابة الخطوة الأهم في تشكيل رؤية مستقبلية للاقتصاد في البلاد. المملكة، شئنا أم أبينا، لن تتمكن من تفادي اللجوء إلى تطبيق مثل هذه الأنظمة الاقتصادية في المستقبل، ولذلك أليس خيراً لنا وخيراً لهذه المشاريع العملاقة ولبقاء نتائج هذه الطفرة أن نبدأ بأسرع وقت ممكن حتى نحافظ على ما تم إنجازه؟ أما إن تأخرنا، وهذا ما أتوقعه، فسنساعد على تردي جودة هذه المشاريع وبالتالي ارتفاع تكاليف ترميمها وإعادة هيكلتها بعد بضع سنوات. وقبل هذا، هل سيكون ذلك بمقدورنا؟ الله أعلم! النقطة الأخرى والأهم في نظري، هي علاقة الجودة بخلق الوظائف وما أحوجنا إلى خلقها. فالاقتصاد الديناميكي المنتج لمعايير الجودة هو الذي سيخلق فرص العمل المطلوبة والعكس صحيح. ذلك أن تدني مستويات الخدمة يعني الاعتماد على أرخص الأسعار سواء فيما يتعلق بالمواد المستخدمة أو جودة ومؤهلات الأفراد المشغلين. فأيهما نختار؟ الإنتاج أو الركون إلى الجمود وتضخم النفقات على الميزانية من دون الوصول إلى المستويات التي كنا نحلم بأننا وصلنا إليها عندما فكرنا بإنفاق هذه الأموال؟ أختم باقتراح متواضع لوزارة المالية ووزارة الاقتصاد والتخطيط، بإقامة ورش عمل متخصصة يتم دعوة عدد من الخبراء الاقتصاديين «العالميين»، وطرح هذه المواضيع على طاولة البحث. مثل هذا الحراك العام بين الدولة وخبراء الاقتصاد من خارجها لابد وأن يأتي بمبادرات مختلفة وخلاقة قد -أقول قد- تكون غائبة عن «خبراء» الدولة. وعلى قول المثل الشعبي: «إن نفعت وإلا ما ضرت الجمل». وفق الله بلادنا والمخلصين من أبنائها إلى الخير. * كاتب سعودي. [email protected] f_deghaither@