في ظل أزمة اليورو والركود الاقتصادي اللذين تعيشهما أوروبا منذ نحو عامين، ينظر المرء إلى الانتعاش الذي تعيشه ألمانيا على أنه استثناء صعب الفهم. ويسبح الاقتصاد الألماني حالياً ضد التيار في القارة، وفي منطقة اليورو في صورة خاصة. وفي مواجهة التخوّف والقلق وتزايد العجز المالي والبطالة وانسداد الأفق أمام الشباب في أكبر الدول الأوروبية وأهمها، مثل إيطاليا وإسبانيا وفرنسا، إضافة إلى اليونان المفلسة من الناحية الفعلية، والبرتغال التي تكافح مثل إرلندا لتفادي الكأس المرّة التي شربت منها أثينا ولا تزال، تبدو ألمانيا مثل جزيرة منفصلة عن القارة عائمة وحدها، تقطف ثمار النمو والانتعاش ودوران عجلة الإنتاج فيها التي يحركها الطلب من الداخل والخارج. أراء خبراء فهل لهذا الاستثناء ديناميكيته الخاصة به، وهل يمكن ان يستمر من دون ان تتأثر ألمانيا ومواطنوها بالأزمات؟ يختلف الخبراء والمحللون الاقتصاديون والماليون في ألمانيا حول هذا الأمر. فمنهم من يعتقد، مثل كبير خبراء مصرف «كوميرتس بنك» يورغ كريمر، بأن ألمانيا «لن تكون قادرة على مواصلة السير في نموها بمثل هذه الوتيرة لمدة طويلة». ومنهم من يرى، مثل رئيس «اتحاد التجارة الخارجية وتجارة الجملة» أنطون بورنر، ان الشركات الألمانية المصدّرة تكسب أسواقاً على المستوى الدولي وتقلّل ارتهانها لبعض الأسواق التقليدية في أوروبا. وبعد التخوف الشديد من آثار تراجع الصادرات الألمانية إلى الدول الأوروبية، التي تستهلك سنوياً 60 في المئة من مجمل المبيعات الألمانية عالمياً، يبدو ان الأسواق الجديدة التي أمنتها دول مجموعة «بريك» (البرازيل وروسيا والهند والصين)، ودول آسيوية ولاتينية أخرى، بما فيها بعض الدول العربية، عوّضت إلى حد كبير ما خسرته ألمانيا في أوروبا بسبب العجز المالي وضرورات التقشّف. وربط بعض الخبراء ارتفاع عدد العاطلين من العمل في البلاد بمقدار 19 ألف شخص في نيسان (أبريل) الماضي مباشرة بتراجع الصادرات الألمانية إلى السوق الأوروبية. ومن المفارقات الهامة في هذا المجال التناقض الكبير الحاصل بين نمو سوق العمل والأجور في ألمانيا من جهة، ونموهما في الدول الأوروبية الأخرى من جهة أخرى. إذ مقابل الصرف الجماعي من العمل في القطاعين الخاص والعام في منطقة اليورو، وخفض الأجور أو إبقائها على حالها، ورفع الضرائب المباشرة وغير المباشرة، لا يزال خبراء السوق الألمانية يتوقعون بقاء البطالة في البلاد تحت حدّ الثلاثة ملايين عاطل من العمل هذه السنة والسنة المقبلة. زيادات في الأجور وبعد زيادات في الأجور بلغت بين 2 و3 في المئة تحققت في الأعوام الماضية، سيحصل العاملون في القطاعين العام والخاص على زيادات عالية تراوح ما بين 4 و6 في المئة العام الجاري، الهدف منها تنشيط الاستهلاك الداخلي في صورة أوسع ليساهم بمعدل أعلى في النمو الاقتصادي. ووحده قطاع الاستثمارات الخارجية في ألمانيا سجّل السنة الماضية ومطلع السنة الحالية تراجعاً ملموساً عن السابق، بعدما لجأت الدول الأوروبية المتعثرة والولايات المتحدة إلى كبح نشاطاتها في هذا المجال، لكن ثقل هذا التراجع على النمو العام في ألمانيا يبقى محدوداً. وبما ان بيانات النمو الدورية للشركات لا تزال تعطي صورة متفائلة عن الوضع الاقتصادي والمالي في ألمانيا، ينتفي الحديث عن الآثار السلبية التي يمكن ألمانيا ان تنتظرها من استمرار أزمة اليورو. ويشير العرض المتكرر من المسؤولين الألمان على اليونان بالانسحاب من منطقة اليورو وعملتها، وكلام وزير المال فولفغانغ شويبله بأن «أوروبا أصبحت قادرة على هضم إفلاس اليونان بأقل الخسائر الممكنة»، إلى ان الألمان مستعدون لمواجهة هذا التحدي على رغم قلقهم النسبي من نتائجه الخفية. ولا أحد قادر على تقدير مدى خسارة ألمانيا من خطة تنظيم إفلاس اليونان في صورة واضحة، إذ تتراوح التقديرات بين 40 و80 بليون يورو. ومع الإشارة إلى القدرة على تفخيخ أسئلة استطلاعات الرأي، تبعاً لمصالح بعض الجهات المعنية، يمكن القول بأن المواطنين الألمان لم يفقدوا ثقتهم بعد في قدرة الحكومات على حلّ أزمة اليورو، التي لا يرون أنها تهدد اقتصادهم ووضعهم الشخصي. فعلى رغم أحاديث إفلاس بعض الدول وتخصيص مئات المليارات لإنقاذها، والهبوط الصاعق للأسهم في البورصات، وعقد القمم الأوروبية المتتالية لمعالجة الوضع، أظهر استطلاع لمعهد «أللنباخ» ان 53 في المئة من الألمان يتطلعون بتفاؤل إلى السنة الحالية، في حين أعرب 12 في المئة فقط عن وجود تخوفات لديهم. وأضاف المعهد ان 43 في المئة من المستطلعين ينتظرون انتعاشاً اقتصادياً خلال الأشهر الستة الأولى من العام الحالي، مقابل 33 في المئة يرون أنه سيبقى على حاله، في حين يتوقع 15 في المئة فقط ركوداً. وعقّبت رئيسة معهد الاستطلاع ريناته كوشر على هذه النتائج بالقول «إن التجربة اليومية للمواطنين تتناقض تماماً مع الأخبار السلبية يومياً». وأضافت أنه في ظلّ الطابع غير المستقر للوضع العام في أوروبا يقدّر الألمان جداً وجود عمل مضمون لهم أكثر مما كان عليه الأمر في السنوات الثلاث أو الأربع الماضية. مستقبل اليورو ومن الواضح ان وضع الاقتصاد وسوق العمل في ألمانيا هو أكثر استقراراً مما كان عليه خلال الأزمة المالية عام 2008، في حين لا يمكن سحب هذا الاستنتاج على غالبية دول منطقة اليورو. وأظهر استطلاع أجراه معهد «إيمنيد» ان 65 في المئة من الألمان مقتنعون بأن اليورو سيبقى حتى عام 2021 على الأقل، في مقابل 31 في المئة قالوا انه سيختفي خلال عقد من الزمن. وكان المعهد أفاد في استطلاع أجراه عام 2010 بأن 56 في المئة من الألمان يفضلون المارك على اليورو، مقابل 43 في المئة سابقاً، لكن استطلاعاً آخر نشرته قناة «أ إر دي» الأولى العامة أخيراً ذكر ان 60 في المئة من الألمان يتمسكون باليورو، على رغم الأزمة المالية الحالية، وأن ثلثي الألمان يعتقدون بأن الاتحاد الأوروبي مستقر ولن يتصدع بسبب الأزمة. ويكرر خبراء الاقتصاد والمال الألمان باستمرار ان وضع ألمانيا الفريد في أوروبا يعود أساساً إلى «روزنامة عام 2010» الاقتصادية الإصلاحية التي أقرها المستشار السابق غيرهارد شرودر في ظل حكومته الاشتراكية - الخضراء، ودفع ثمنها غالياً من خلال تقديم استقالته عام 2005 على خلفية خلافه القوي حولها مع الجناح اليساري في حزبه الاشتراكي ومع النقابات العمالية التي رفضتها. وأدت البنود التي نفذت من الروزنامة إلى تحقيق إصلاحات بنيوية في القطاعين العام والخاص، وخفض كلفة الإنتاج مع تعزيز الإنتاجية والقدرة التنافسية، وخلق فرص عمل من خارج سوق العمل الرئيسة. وصحيح ان فرص العمل هذه استغلت أرباب العمل لدفع أجور ضئيلة ووسعت الفروقات بين الألمان من ناحية الدخل والمعيشة وتقاسم الثروة الوطنية، إلا أنها أمنت فرص دخل لكثيرين، بخاصة للراغبين في ممارسة أعمال ظرفية أو العمل لفترات أو ساعات محدودة. والتطور الجيد الذي حصل في هذا المجال ان الحكومة المسيحية - الليبيرالية تخلّت أمام الاحتجاجات المستمرة من النقابات العمالية وعدد من الأحزاب عن موقفها الرافض لإقرار حد أدنى للأجور في البلاد، ما يبشّر بردم الهوة الاجتماعية التي نشأت في البلاد خلال السنوات الماضية.