يحتاج أبناء مدن سعودية عدة إلى ممارسة ترحال يومي لمسافات بعشرات الكيلومترات خارج المنطقة العمرانية للمدينة من أجل حيازة «رأس معسل»، بينما تتناثر في أزقة جدة وشوارعها الداخلية مقاهٍ تقتات معادلاتها الاقتصادية على تقديم «المعسل» حتى ساعات متأخرة من ليلها «الحي» وبعضها يعمل على مدار الساعة. تتعرض مدن سعودية كثيرة لسطوة قوانين حازمة وغالقة لمطاعمها في ساعات تعتبر باكرة جداً لشريحة العزاب والمنهمكين في أعمال ليلية، لذلك فثمة جياع كل ليل، على رغم اكتظاظ البنوك والمحافظ بما يكفي لسد جوع أفريقيا قاطبة. تنساق قوانين مماثلة على جوانب من حياتنا، ما يؤرق شريحة الشباب تحديداً بحثاً عن جواب حول أسئلة تكون في آحايين كثيرة طفولية، مثل «ليش بجنب بيته مقهى، وأنا المقهى في قلعة وادرين»؟ تفسير كلمة «قلعة» هنا يعني المكان الموغل في البعد، وليس المكان الحصين، بينما لا أجد تفسيراً لوادرين هانم، ولم أتشرف بلقائها، لكنني تشرفت بمجالسة أصدقاء من الرياض، الدمام، وتبوك تشاركوا في حنقهم على «من ذبح قلبي بسكينه»، ورمى «الأرقيلة» المسكينة على قارعة طرق سريعة بعيداً من مدنهم. تعشقت وعاشرت «الأرقيلة» منذ 20 عاماً، كانت خلالها المقاهي مدارسي الساقية أحاديث أسهمت في نمو تكوين مداركي ورؤاي عن كل حراك محلي، ومنصات لأعمال ومشاريع كانت ولا تزال جزءاً من دخلي الشهري، فمنها أصدرنا كتباً، أسسنا شركات، حتى هذا المقال أكتبه على ناصية مقهى بعد الساعة الرابعة فجراً ويجلب لي مالاً آخر الشهر. تتعدى مهمة المقاهي الليلية اعتقادات سقيمة حول كونها وطناً ل«الدشير»، إلى كونها مغتسلاً يزيل هموم الحياة اليومية، وسماءً مكتظة بفرص التقاط لقمة العيش، وتمارس مهمة مكاتب موقتة رخيصة الكلفة وقادرة على مساعدة شريحة الشباب على توفير دخل مالي في زمن لا تتوفر فيه وظائف لملايين الشباب والفتيات، كما أن الإغلاق الباكر لها ولبقية مرافق الحياة يصيب المدينة بحال تشبه «الأرملة» كآبةً ولباساً. يلجأ إلى مقاهي جدة المعتاشون على سوق الأسهم، كمصدر رزق وحيد، «يطقطق» آحادهم على محفظته، وأقداح قهوته، وينفخ إعصار دخان «المعسل» كلما بات اللون الأحمر فستان الشاشة والمؤشرات، ويجاوره أقوام يتحول معظم أحاديثهم من تنظير إلى تقرير مشروع على أرض الواقع إسهاماً في رتق عرى البطالة. يأتي سرد بعض منافع المقاهي للتذكير بأن التحكم بأمزجة مدن وسلوكيات سكانها، كذلك جدول وجباتهم الغذائية، ينتج عنه هدر لوقت ومال غالبية من ذوي الدخل المحدود، ففاتورة بنزين السيارات المحروق في مشاوير المقاهي البعيدة يشكل، وفق حسابات تراكمية، فقدان ملايين الريالات، إضافة إلى مئات الملايين من الساعات المفقودة من عمر الشباب ذهاباً وإياباً. احتاج الإسلام لسنوات طوال وتدرج قانوني لمحاصرة اقتران الخمر بحال مزاجية شائعة لدى العربي القديم، بينما يتعرض مزاج العربي الجديد لتحكم من بعد من خلال توقيع موظف. كما أنه يصعب الوثوق بوجود تماثل في حيازتنا على الحظوظ ذاتها إلا في مسارات محدودة، منها قطاع الجوازات، نظام ساهر، بدايات الدوام المدرسي، وخسائر منتخب كرة القدم، أما الانتقال من مدينة إلى أخرى فإنه أحياناً يشبه الانتقال إلى دولة في قارة بعيدة. [email protected] @dad6176