عندما وصل خبر مقتل الشيخ احمد عبد الواحد ومرافقه الى الرجال والشبان الذين كانوا متجمعين في ساحة البلدية في حلبا في شمال لبنان منتظرين انعقاد تجمع لخصومهم من أنصار الحزب السوري القومي الاجتماعي على بعد مئات قليلة من الأمتار، تسرب الغضب ببطء الى نفوسهم، ذاك انهم كانوا بانتظار مواجهة أخرى، مع خصوم آخرين، واذ بخبر الشيخ يأتيهم من خلف موقع المواجهة المنتظرة. لقد قتله الجيش اللبناني هناك في بلدة البيرة البعيدة عن موقع المواجهة المنتظرة، وهم إذ أتاهم الخبر، راحوا يتداولونه سراً في البداية، وينفعلون معه على نحو غير منتظم. في الدقائق العشر الأولى كان سراً في صدور الجميع، لم يظهر على وجوههم بصفته حزناً على شيخهم، فالأرجح ان عبد الواحد ليس إمامهم، وكثير منهم لا يعرفه سوى بالاسم. لكنهم كانوا في هذه الدقائق يحاولون ازاحة استعدادهم للمواجهة الى غير الناحية التي جاؤوا لخوض المواجهة فيها. الدقائق العشر الأولى لوصول خبر مقتل الشيخ احمد عبد الواحد الى ساحة حلبا، كانت لحظات استثنائية وكثيفة، يمكن مَن عاينها اختبارُ آلية اشتغال وجدان جماعة على وقع خبر عاطفي. وصل الخبر في البداية عندما سُمع صوت سيارة الاسعاف ناقلة الشيخ الى المستشفى القريب. قيل ان حادثاً جانبياً حصل على حاجز للجيش، وما هي الا دقائق حتى بدأ الخبر يتغير، الى ان تيقن الجميع من ان الجريح الذي ما لبث ان فارق الحياة هو الشيخ عبد الواحد. وفي هذا الوقت لم يكن الخبرُ خبرَ الجماعة كلها، كان خبرَ معظم المشاركين، لكن كلٍّ على حدة. ثم ان واحدهم لم يكن لينفعل به قبل ان يعاينه في وجوه الآخرين. وهكذا بدأ الانتقال الى مستوى مختلف من الأداء، فأصيب أفراد بنوبات غضب بدا انها مُستمَدة ومُستعانٌ على الاستغراق فيها بمشاعر الجميع. مَن يغضب ويصرخ انما يفعل ذلك باسم الجماعة لا باسمه لوحده، ولهذا فإن قول الفرد الواحد تحول مع الوقت الى قول الجماعة كلها. فعندما طلب النائب خالد الضاهر بعد أكثر من ساعة من الجيش اللبناني مغادرة عكار كلها، كان سبقه الى هذا القول في اللحظات الأولى ل «الكريزا» العكارية رجل في أواسط عمره راح يصرخ قائلاً: « فليرحل الجيش... لا نريده». اشارة الانطلاق إنهم «سنّة لبنان»، وهذه عاميتهم، وسرعان ما استقبل فتية القرى العكارية اشارة الانطلاق الى الشوارع مُرسلة من ساحة بلدية حلبا، فقد كانت هواتف المجموعة المحيطة بالنائب الضاهر في ساحة البلدية لا تهدأ، داعيةً الناس الى قطع الطرق احتجاجاً على مقتل الشيخ، وبدا ان الساحة هي النواة الجغرافية التي يتلقى منها «شعب عكار» وجهة غضبه. لكن مقتل الشيخ عبد الواحد ليس كافياً لإحداث هذا التحول والانتقال ب «الأمة المغلوبة» الى الشارع، فمن الواضح أن النزول الى الشارع كان وليدَ تراكم «مرارات»، وأن حدث مقتل الشيخ لم يكن الا اشارة الانطلاق. ثم ان من يعرف الشمال اللبناني يمكنه ان يتلمس تحولاً جوهرياً أصابه في الأشهر القليلة الفائتة، انتقل خلالها من متلقٍّ الى مبادر، وأن مساحة الاختراق وان اتسعت بالمعنى الأمني، ضاقت كحيز عام، ولهذا بدا المهرجان الذي كان الحزب السوري القومي الاجتماعي (وهو خصم تيار المستقبل) بصدد إقامته، تحدياً فعلياً لما صار عليه الوضع في الأشهر الأخيرة. ولعل سرعة استجابة الحزب لطلب الجيش إلغاء مهرجانه فور شيوع خبر مقتل الشيخ، هو نَزْعٌ من شعور لدى القوميين انه ما عاد ممكناً اقامة مهرجان في لحظة استيقاظ غرائز الجماعة العكارية. نعم، تغير الوضع في عكار وفي شمال لبنان، وذلك بفعل عوامل كثيرة، وعلى وقع عوامل كثيرة، فالشعارات المكتوبة من طرابلس وصولاً الى حلبا ، تؤشر كلها الى ان الجماعة تعيش تحت وطأة جرح جماعي عبر سنوات من الممارسة التي تعتقد انها تستهدفها. «7 أيار 2008» ما زال حياً ومشتغلاً، وإسقاط حكومة الحريري ضاعف من المرارة السنية، والأشهر الخمسة عشر من عمر الانتفاضة السورية ومن تبعاتها اللبنانية تولت تظهير شعور الجماعة بالاستهداف. لافتة عُلقت في ساحة عبد الحميد كرامي في طرابلس، احتجاجاً على استمرار احتجاز اسلاميين شماليين من دون محاكمة، تقول: «عملاء إسرائيل يُفرَج عنهم ويستعيدون حقوقهم المدنية وأبناؤنا في السجون بلا محاكمة»، وهذه اللافتة تتكرر في المنية وفي ساحة العبدة في عكار وصولاً إلى حلبا، وهي تؤشر من دون شك الى أنها صادرة عن ضائقة الطائفة حيال نفوذ الطوائف الأخرى. فالمعني في «عملاء اسرائيل المفرج عنهم» هو العميد فايز كرم العوني والماروني الذي دِينَ بالعلاقة مع اسرائيل، والذي يعتقد الناس في الشمال انه أفرج عنه بسبب علاقة ميشال عون مع حزب الله. وكم يبدو عبثياً حين تقول وسائل الإعلام عند تغطيتها وقائع يوم الأحد الفائت في شمال لبنان «إن مناصري تيار المستقبل نزلوا الى الشوارع»! ذاك أنه لا أثر لما يمكن ان يعنيه تيار المستقبل في وجوه فتية القرى والأحياء الذين عاينهم المرء في الشوارع في ذلك النهار، كما ان نائبَيْ كتلة المستقبل الواقفين في ساحة حلبا، أي خالد الضاهر ومعين مرعبي، ليس فيهما ما يعهده المرء في نواب المستقبل. انهما أولاً ملتحيين، ولا يستعينان في كلامهما بالخيارات الكلامية ل «المستقبل»، انهما خالد الضاهر أولاً ومعين المرعبي ثانياً، وهما عكاريان وسنيان وغاضبان، ويريدان الانتقام للشيخ القتيل، ولا يجيبان على هواتفهما حين يطلبهما زملاؤهما في الكتلة النيابية، ثم إنهما قاما بتحصيل موقعيهما و «كاريزماهما» من وقائع عكارية لا مستقبلية، ومرات كثيرة شعرا ان موقعيهما يتطلبان إعلاناً عن الابتعاد من «هدوء المستقبل». إنهما توأم عكار اللذان يشبهانه، والمستغرقان في مشابهته الى حد يضيع فيه المرء بسؤال نفسه مَن يشبهه أكثر، فإذا كان الضاهر أكثر قرباً من سحنة أهله الفقراء، فمرعبي أطلق لحية خفيفة، واذا كان الأول «ابنَ الشعب العكاري» فالثاني «ابنُ البيك» الذي لم ينس «شعبَه». ثم إنها «عامية السنة»، فيما المستقبل صُوِّر بصفته ثَراءهم، وهما إذا التقيا عند مرارة الإقصاء الذي مورس بحقهما، لكنهما لا يلتقيان في مشهد رفض الإقصاء، فعامة الناس ترفض الإقصاء على نحو آخر، وتُعبر بطريقة مختلفة، وبطلها يختلف عن شهيدها، والمسافة بين رفيق الحريري وخالد الضاهر ليست فقط السنوات السبع التي تفصل 14 آذار 2005 عن 20 أيار 2012، انما أيضاً ما حملته هذه السنوات من وقائع ومساع سورية وحزب إلهية لاستبدال الأول بالثاني. التوتر متصاعداً وغضب فتية عكار في أعقاب مقتل شيخ بلدة البيرة لم يكن بديهياً ومطلقاً، كان تصاعدياً، بحيث يمكن المرء الذي يتعرض لمخاطره ان يقطعه من نصفه قبل ان يكتمل، لكن خطأ واحداً يجعل من تصاعده مضاعفاً. لم يكن موضوعُ الغضب مقتلَ الشيخ، ففي بلدة دير عمار، البعيدة نسبياً من حلبا، لا يعرف الفتية الشيخ عبد الواحد، بل ان شقيق الأخير حضر طالباً فتح الطريق فواجهه الشبان بالاحتجاج قائلين: «تريدنا ان نفتح طريقاً أقفلناه من أجل شقيقك؟». كان غضباً مفتوحاً على «الجرح السني» بدءاً من بيروت «7 أيار» وصولاً الى حمص. وفي المقابل، كانت ثمة إدارة لهذا الغضب، فتصريحات النائب خالد الضاهر التي كان يُطلقها من ساحة البلدية في حلبا، كانت تشتغل على وقع الاتصالات التي كانت ترده من رئيس الحكومة نجيب ميقاتي ومن المسؤولين الأمنيين، فكان الضاهر يوازن بين حركة الشارع وبين مستويات التفاوض المختلفة، فحين طلب من ميقاتي سحب الجيش من عكار رفع المناصرون من حوله اصواتهم مهللين، وحين طلب عدم منع الناس من احراق الاطارات أشار الى مرافقيه والمحيطين به بصوت خفيض بأن يحولوا دون أن يتعدى الاحتجاج ذلك. ثم ان عكار «السنية» لم تكن كلها غاضبة، انهم فتيتها وشبانها ورجال قليلون التحقوا بهم، لكن خلف جدران الغضب التي رسمها الفتية بالاطارات المحترقة، كانت ثمة قرى فقيرة أرسلت شبانها الى الطرق لإقفالها فيما استمرت هي هادئة ومنزوعة من مشهد العنف بحد يشبه حد شاشة التلفزيون حين تُقرر ان تبث مشهدين في آن، فعكار أخرجت في ذلك اليوم خالد الضاهر الى الشوارع وأبقت فؤاد السنيورة داخل القرى، بحيث كان رجال ونساء يعملون في المزارع، ورجال مسنون يبيعون في دكاكينهم وأطفال يلهون في سواقي المياه المتوجهة الى حقول السهل. ويبدو ان خالد الضاهر افتتح زمناً عكارياً مختلفاً، ذاك ان الشارع يخفي القرى، او يحتويها، وهو الذي يصنع العامية ويجعلها فعلاً سياسياً. لكن عكار لم تبق لوحدها في ذلك اليوم، اذ سرعان ما انضمت الى عاميتها طرابلس، التي خرج فتيتها من وراء جدرانهم الاجتماعية الى خارج السور، واستولوا على المشهد فيها. وفتية طرابلس كانوا أقدر تظهيراً لضائقة السنة في لبنان، ذاك ان أحياء طرابلس الفقيرة أقدم من عكار في الخروج الى الشارع، وفتيتها أكثر احترافاً في رفع العلامات التي يخاطبون عبرها خصماً متوارياً وغير مرئي. الأعلام السود التي كتبت عليها عبارة «لا اله الا الله» لم يرفعها فتية متدينون، انما فتية التبانة والقبة وأبي سمراء الذين خرجوا الى الشارع العام، والشعر الطويل المنسدل جدائلَ على أكتاف كثيرين منهم ليس شعراً سلفياً، انما شعر يمكن استعماله في الوجهتين السلفية و «الحداثية»، وفقَ المناسبة. ومرةً اخرى في طرابلس، بدا ما تقوله التلفزيونات، عن ان انصار المستقبل يقطعون الشوارع، ضرباً من العبث! فالشبان الذين قطعوا الشوارع في المدينة نهار الأحد الفائت، هم فتية طرابلسيون من ابناء «الأمة المغلوبة» الذين نزلوا في 14 شباط 2005 الى ساحة الشهداء في بيروت حاملين العلم اللبناني ورافعين صور رفيق الحريري، وها هم اليوم يرفعون صور النائب محمد كبارة وأعلام السلفية التي لا يعرفون منها الا ما تحمله من تحدٍّ ومن احتمالات قوة. اما القول بأن النائب كبارة هو عضو في كتلة المستقبل، تماماً كما هي حال النائبين خالد الضاهر ومعين المرعبي... فصحيح مبدئياً، مع ملاحظة ان علماً واحداً للمستقبل لم يظهر في عامية سنة لبنان، التي تأخرت نحو ثلاثين عاماً عن عامية الشيعة فيه، في العام 1984.