كل ربيع يطل على العالم باسماً، ضاحكاً، حاملاً معه الدفء والأمل، يلون الطبيعة بالأزهار والورود التي تنشر شذاها في الأجواء، ومعها الثمار الطيبة والمواسم الغنية... إلا الربيع العربي، فقد تفاءلنا به خيراً وعلّقنا عليه الآمال العظام، لكنه جاءنا عابساً، باكياً، بعد أيام من الصحو والمؤشرات الإيجابية التي تبشر بالخير العميم. صحيح أن الثورات العربية المتلاحقة نجحت في تحريك المياه الراكدة وضرب مواقع الديكتاتورية والتفرد والفساد والظلم وانتهاك القوانين وحقوق الإنسان، وبشرت كذلك بأنظمة تمثل الشعوب وتحاكي تطلعاتها وتستمع إلى آهاتها وشكاويها وتتناغم مع نبضها، إلا أن كل ذلك لم يمنع حدوث انتكاسات وسلبيات وظواهر مَرَضية كادت تنسف كل المكاسب وتدفع الشعوب إلى زنازين القلق وخيبات الأمل بعد أن حطمت زنازين الظلم والاضطهاد. وقبل أن تستفحل الأخطار، لا بد من وقفة تأمل والتقاط أنفاس، لنأخذ الدروس والعبر من التطورات المتلاحقة، ونعمل على تصحيح المسار ورسم خريطة طريق لإنقاذ الربيع العربي من السقوط في هاوية من الضياع تتسبب في تبديد كل ما تحقق وتعيد عقارب الساعة إلى الوراء وتدمر ما بقي من بنيان، فالهدم سهل، والبناء صعب المنال، والأحداث وضعت الأوطان على مفترق طرق وأعادتها إلى نقطة الصفر، فإما انطلاقة نحو المستقبل الزاهر والمستقر أو الانزلاق نحو الفوضى والفتن والانهيار. لقد تسببت الأنظمة العربية على مدار عقود من الاستئثار، في شل المؤسسات، وإفقار البلاد، وتشتيت العباد وتهجيرهم أو تدميرهم، ثم جاءت الثورات لتنتفض على الواقع المرير وتبشر بفجر منير، لكنها توقفت عند التفاصيل الشيطانية، وتشرذَمَ أصحابها وأبطالها، فمنهم من قعد، ومنهم من أعفى نفسه من المسؤولية، ومنهم من تقاعس، ومنهم من اعتبر أنه أدى واجبه، ومنهم من امتنع عن المشاركة في صنع القرار... حتى جاء مَن يستغل الفرصة وينتهز المناسبة ليقفز على السلطة ويهيمن على صنع القرار، فيما أصحاب الثورة يتفرجون، والأكثرية الصامتة مهمشة مستسلمة. هذا المشهد المؤسف لا يخفى على أحد، وتوجيه الأصابع إلى مخاطره على مجمل الأوضاع هدفه التنبيه ودق ناقوس الخطر، لا التشهير بأحد أو انتقاد طرف ما والمشاركة في الندب وجلد الذات من جديد. المطلوب كثير من الوعي والحكمة والعقلانية، وكثير من التفاني والعمل وبذل الجهد والمشاركة الفعلية في إيصال مركب الأوطان إلى شاطئ الأمان، والمطلوب رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، وحققوا ما وعدوا به الشعوب، ورجال حكماء لا يتبعون أهواءهم ولا يكررون تجارب الأنظمة البائدة في خوض المعارك المدمرة والاستئثار وتحويل البلاد إلى مزرعة لفرد أو لحزب أو لفريق ما مهما كانت المبررات والوسائل التي استخدموها للوصول إلى السلطة، فالغاية هنا لا تبرر الواسطة، والأوضاع الحساسة والدقيقة غير العادية وغير الطبيعية تحتاج إلى حلول غير عادية، وأساليب استثنائية تضع الأوطان في غرفة «العناية الفائقة». تقتضي الحكمة توافرَ عوامل الصبر والتسامح والواقعية والدراسة المتأنية، والامتناع عن التهور والتسرع، والنظر إلى النصف الملآن من الكأس، واعتماد المرحلية في الحلول، وفق مبدأ «خذ وطالب»، ووفق حكمة: «ما لا يؤخذ كله لا يُترك جُلُّه»، لأن السياسة هي فن الممكن، لا تقوم بالوعود الكاذبة والمبالغة والتهويل والاكتفاء بالأقوال والعجز عن القيام بالأفعال البناءة والأعمال الحقيقية لا الوهمية. والواقع يستدعي التأني، ووضع جدول زمني وآلية تنفيذ، وتجنب تأجيل الحلول للمشاكل الآنية التي يئن تحت وطأتها كل مواطن... ولكن من غير الممكن وضع الحلول الجذرية من دون معالجة العلل المتراكمة منذ عقود، والخسائر الاقتصادية والمالية التي ازدادت حدتها خلال عام من الاضطرابات، وحالات التخبط وعدم الاستقرار وهروب الرساميل وتناقص الاستثمارات الوطنية والأجنبية وتراجع قيمة العملات الوطنية ومصادر الدخل وارتفاع نسب البطالة بشكل مريع، تزامناً مع موجات غلاء فاحش لا مبرر لها ولا تفسير سوى الجشع والطمع وغياب الرقابة والمحاسبة. ومن هنا، فالمطلوب إعادة النظر في كل الأمور والقضايا، وتحديد مصادر القلق ورواسب الماضي البغيض، ومن ثم التصالح مع الماضي والنظر إلى المستقبل ومعالجة مشاكل الحاضر وهمومه وشؤونه وشجونه، فالطريق طويل ومحفوف بالأخطار، والمشوار طويل بعد أن حققت ثورات العرب هدفها الأول وسارت خطوات مهمة في طريق الألف ميل. وعلى رغم الاعتراف بأن الأوضاع الحالية في مجملها تمثل مرحلة انتقالية لا استقرار فيها لأي فئة ولا قرار مهما حاولت إثبات وجودها وعرض عضلاتها، فإن التجارب علمتنا أن نشهد الكثير من المتغيرات والانقلابات في المواقف والتحالفات. صحيح إن التيارات الإسلامية وجماعة الإخوان المسلمين بالذات، قد نجحت في حشد التأييد وتأمين الطريق نحو وصولها إلى السلطة، إلا أنها لا تزال تقف على فوهة بركان، أو على الأقل على أرض رخوة قد يشكل تحركها تحولاً، خاصة وأن الأكثرية الصامتة قد تقاعست عن أداء واجبها في صناديق الاقتراع، ولم تؤد واجبها كما يجب. فكيف ينجح الشباب في حشد المليونية تلو الأخرى وفرض الواقع على الجميع، مبشرين بفجر جديد، ثم يعجزون عن إيصال مرشحيهم إلى سدة البرلمان ويتراجع زخم تحركهم وتبرد همتهم لأسباب غير مبررة، بينما نجح الإسلاميون على اختلاف توجهاتهم في ركوب الموجة، على رغم أنهم لم يشاركوا فيها من بداياتها، كما نجحوا في حشد الناخبين وتأمين سبل النجاح بيسر وسهولة. أما المرأة، فغاب صوتها ولم يغيَّب، لتعود وتصرخ وتشتكي من هضم حقوقها... وكذلك الأمر بالنسبة إلى الأقباط في مصر، فعلى رغم وزنهم الانتخابي الفاعل، لم نر لهم أثراً ولا قدرة على التأثير في مجريات الانتخابات الأخيرة. ومع هذا، يبقى الوضع متأرجحاً، والنجاح موقتاً، والآمال مقصورة على الانتخابات العامة المقبلة بعد عام، حيث سيتحدد فيها المسار والمصير في ضوء الدستور الذي سيتم وضعه والنتائج التي ستسفر عنها لتحديد ميزان القوى واتجاهات الرأي العام وشكل الحكم في المرحلة التأسيسية المقبلة. وبانتظار ذلك، لا بد من تحديد معالم خريطة طريق لأي جهة سيسعفها الحظ في تأمين الغالبية الوازنة وفق الخطوات التالية: * إعادة النظر في الأساليب والوسائل والسياسات التي تتعلق بمختلف مناحي الحياة، فالتغييرات المطلوبة لا تعني استبدال رئيس برئيس، أو نظام بنظام، وهي ستفشل حتماً طالما أن النهج واحد. * تأمين مشاركة جميع الفرقاء والأطراف في عملية بناء المرحلة التأسيسية والتخلي عن سياسات التشفي والأحقاد ومعايير الثأر وتصفية الحساب بعد أن خبرنا التجارب السيئة القائمة على الإقصاء والعزل والاجتثاث، والتي لم تؤد إلا إلى توسيع الهوة بين أبناء الشعب وزيادة تراكم المشاكل والخلافات وحالات العداء. * تجنب أمراض الاستئثار والتفرد بالحكم والقرار والإقلاع عن التمييز باحترام سيادة القانون والالتزام بمبادئ العدالة والمساواة وتكافؤ الفرص. * البعد عن التعصب والتطرف واعتماد العنف وسياسة فرض القرارات بالقوة والعودة إلى أساليب القهر والقمع. * إخماد نار الفتن الطائفية والمذهبية والدينية والعرقية ونزع صواعق التفجير وإزالة أسباب الغبن والشكاوى والتمييز وفق مبدأ المواطنية والمساواة في الحقوق والواجبات. * اتخاذ إجراءات ووضع قوانين رادعة لقمع الفساد واجتثاث جذوره من الأعماق ومحاسبة كل من تجرأ على التطاول على ثروات البلاد ولقمة عيش العباد. * إعادة بناء الاقتصاد الوطني على أسس سليمة بعيداً من السياسات العقيمة السابقة وتخبط الأنظمة بين استيراد المبادئ -شيوعية واشتراكية ورأسمالية- من الخارج، رغم فشلها الذريع الذي ظهر جلياً خلال السنوات الماضية. * إصلاح البيت العربي وإقامة منظومة عملية تحقق التكامل وتؤمن قيام مشاريع منتجة تضع حداً للبطالة والفقر والتباين بين دولة وأخرى، رغم معرفتنا بأنّ تعرض عضو واحد في الجسد العربي للمرض تتداعى معه سائر الأعضاء بالسهر والحمى، فالعلة واحدة، والانتكاسات مدمرة، والتضامن مطلوب بإلحاح، وفق ما قال أمير الشعراء أحمد شوقي عام 1927: «نحن في الفقر بالديار سواء كلنا مشفق على أوطانه» * منع التدخلات الأجنبية والإقليمية في الشؤون العربية واستعادة الإمساك بزمام المنطقة بعد أن «فلت الملق» وتزاحمت علينا التدخلات من كل حدب وصوب، لنتحول إلى كرام على مائدة اللئام، الذين يقررون عنا، ويفرضون علينا مواقفهم وسياساتهم كأن لا حول لنا ولا قوة، أو كأننا تحولنا إلى رجل مريض جلس الورثة الأجانب على سريره لاقتسام الغنائم وتوزيع إرثه! هذه المبادئ العامة ضرورية لكي نتنعم بأزهار الربيع وثماره، ونتوقف عن الخوف من تحوله إلى أجواء ملبدة بالغيوم السوداء التي تبشر بعواصف وزلازل وتسونامي لا تبقي ولا تذر. وعلينا جميعاً أن نصرخ بصوت واحد: كفى فرقة، كفى استسلاماً لإرادات مضرة مهما حملت من شعارات، فالشعوب لم تعد تحتمل المزيد من الأزمات وخيبات الأمل وتكرار تجارب التداول بين السيئ والأسوأ، كما يقول الشاعر: «كلما داويت جرحاً قام جرح»، ونزيد: كلما أخمدنا حريقاً شب حريق في مكان آخر. ثم نردد صدى نداء كل مواطن: ارحموا البشر وتوقفوا عن المعارك العبثية وتوريط الأوطان في دوامة العنف! * كاتب عربي