استُقبل الحدث الطرابلسي بمنطقين متقابلين، حاولا تفسيره بغية تطويعه وتحجيمه. يقوم الأول على منطق إرادوي - مؤامراتي، يبحث عن فاعل وخطط وإرادات، وبالتالي مسؤوليات، محولاً الحدث إلى دلالة على مخطط خفيّ، يُكشف ولا يُفهم. قراءة سريعة لبعض المواقف «الممانعة» كفيلة بإبراز هذا النمط، حيث تمّت استعادة الأدبيات «البوشية»، معطوفة على نظرية «الغريب»، لتلخيص ما يحدث بأنها مؤامرة حريرية وسورية معارضة وخليجية، مدعومة بشخصية السلفي بصفته صورة «الشر المطلق». واللافت أن من برّر اشتباكات السنوات الماضية وهلّل لاقتحامات 7 أيار لم يرَ في ما يجري أي تشابه مع هذا الماضي، ولا سخرية من اتهام شادي المولوي ب «النيل من سلطة الدولة وهيبتها»، بعدما تمّ القضاء على تلك الهيبة. واجه بعض «المتنورين» هذا المنطق السياسوي الفج بتفسيرات اجتماعية واقتصادوية، تُرجع الحدث إلى بنيات أعمق، تذوب فيها المسؤوليات والإرادات، ليتحول الحدث إلى مجرّد صرخة يأس، يتفهّمه البعض ولا يفهمه. يتنافس الفقر والحرمان وغياب الدولة والسياسات النيو - ليبرالية (من أكثر المفاهيم التي تمّت إساءة استعمالها في الآونة الأخيرة، بعد مفهوم الإمبريالية) على رسم السياق الملائم لتأطير هذا الحدث. هكذا، يستعين جان عزيز بالتراث الديني والتاريخ والفن والماركسوية لتفهّم «غافروش» طرابلس، ساحباً الحدث من تاريخه المباشر لإطلاقه في فضاء الإنسانية اللاسياسي (الأخبار، 15 - 5 - 2012). فاغفروا لهم لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون، هكذا يتفهم الخصم خصومه. بين الفضح والتفهّم، تذوب طرابلس ولا يبقى منها إلا قندهار تديرها حفنة من السلفيين الانتحاريين أو روضة مليئة بالأطفال الهائجين في ظل غياب المدير. ويصبح العنف مجرد فورة لاعقلانية، تحتاج إلى مؤامرة كونية أو بنيات اقتصادية أو إلى التراث الفكري العالمي بأكمله لالتقاطها. لكن فورة العنف الأخيرة لا تحتاج إلى الفضح أو التفهّم. فهي تكلمت مراراً في الماضي، وما زالت تتكلم، ولولا إصرار البعض على تحوير كلامها، لكان سمع صدى أقواله في ذلك العنف. فمن يريد أن يسمع، كان انتبه إلى أن إدخال السلاح إلى الحياة السياسية اللبنانية لا يؤدي إلّا إلى مزيد من السلاح، بخاصة عندما يكون معطوفاً على تناحر طائفي. وكان فهم أن صدى استغلال العنف الأهلي لأغراض سياسية والتلاعب بالمشاعر الطائفية في اعتصامات مفتوحة والسكوت على ذلك، إن لم يكن التهكم على شهداء طرف معين، وصولاً إلى 7 أيار وتمجيدها، لن يكون صداه إلّا تعاظماً في الطائفية والعنف والتعصب. ومن يرِد أن يسمع، كان فهم أن تفكيك الدولة، مهما كانت ضعيفة، لا يؤدي إلّا إلى شتى أنواع الأمن الذاتي وإلى تمجيد للضواحي، جنوبية كانت أم شمالية. فمن تحييد الجيش في 7 أيار، وإسقاط عشرات القتلى من أجل تثبيت موظف في المطار، وإفراغ الانتخابات من أدنى معانيها، وصولاً إلى تمجيد «المربعات الأمنية» واقتحام المطار من أجل استقبال جميل السيد، لم يعد من المستغرب ألّا تستطيع مؤسسات الدولة فرض هيبتها (التي يحاول المولوي النيل منها)، وأن تقرر مجموعات التشبّه بأسلوب خصمها. ومن يحاول أن يسمع، كان لاحظ أن التشابك والتشابه هما عنوانا اللعبة في لبنان، وأن محاولة عزل طائفة لا يؤدي إلّا إلى فورانها. فبعد إزاحة الزعيم السنّي الأقوى واستبداله بحكومة عونية مدعومة من «قمصان سود» ثمّ قرار محاسبته من قبل فاسدي الطوائف الأخرى، ومن الكلام عن الخطر السنّي وصولاً إلى التهليل للمذابح في سورية، يبقى أن من لا يتوقع رد فعل، يكون إما غبياً أو مجرماً. أما الذي كان يتوقع الرضوخ، فجاهل بتاريخ هذا البلد. وإذا لم تكف كل هذه الضجة للتنبيه إلى أن شيئاً ما قد انكسر، كان على هذا المستمع أن يستمع إلى الثورة السورية وصداها في بعض المناطق في لبنان، وكان سيفهم أنه لم يعد مقبولاً الدعم المطلق لمجازر بشار الأسد، ليس فقط من باب أخلاقي، بل أيضاً من باب الضرورة السياسية، كونها أصبحت جزءاً من المخيلة الطائفية السنّية. وكان سينتبه أيضاً إلى أن اتصالاً ل «أصدقاء وإخوان» في حمص أو تصريحات بأنها «خلصت» لا تقرأ إلّا كإهانات وتبرير للمجازر، وأنها لن تمرّ من دون جواب. وهو لو توقف عن الضحك على الأميركان وعلى انقلاب الإسلاميين عليهم في الماضي، لكان لاحظ أن سياسة إضعاف زعيم الطائفة السنّية الأقوى والأكثر اعتدالاً وتغذية السلفيين «الممانعين» لن تنتهي بإعادة الطائفة إلى كنف المقاومة، بل بالانقلاب عليه عندما تسمح الظروف. وقد بدأت تسمح الظروف... هذا كله ليس للوم طرف على ما حدث وقد يحدث، فالمسؤوليات عدة، ولكنها غير مهمة في حالة حرب أهلية. ومن يرِد أن يسمع، كان سمع أن الحرب الأهلية قد بدأت، وقد تقضي على شعارات الحقيقة والسيادة، ولكنها ستقضي أيضاً على شعارات المقاومة والتغيير والإصلاح وبواخر الكهرباء واستعادة الدور المسيحي والنسبية وسيد المقاومة نفسه. فبدل الهروب إلى ما وراء الحدث، وما تحته وما يحاذيه، كان من الأفضل النظر إليه بتأنٍ، وكان من الممكن رؤية الانعكاسات التي خلّفتها أحداث السنوات الخمس الأخيرة فيه. * كاتب لبناني