في سياق السجالات والمواقف الاقليمية والدولية حيال الحرب الاسرائيلية على غزة، والنقاشات الساخنة حول الدور المصري أو التحركات القطرية والتركية وردود افعال الادارة الاميركية وغيرها من اللاعبين الكبار، غاب الموقف الروسي عن الاحداث، او على الاقل لم يكن صوت موسكو مسموعاً فيها. ويفسر بعضهم الأمر بأنه عائد الى انشغال موسكو بما هو أهم على حدودها، وهي حقيقة لا يمكن تجاهلها، لكن الامر ليس بالبساطة التي قد تبدو للوهلة الأولى، لأن تصريحات الديبلوماسية الروسية والتحركات السياسية الجارية تشير الى مقدمات لتحوّل جدي في علاقات روسيا مع ملف التسوية الفلسطينية – الاسرائيلية بدأت ملامحه الأولى في الظهور. قبل يومين وفي معرض حديثه عن الوضع في اوكرانيا، عقد وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف مقارنة لافتة عندما اشار الى الوضع الانساني المتدهور في شرق اوكرانيا ليعلن: «طالبنا كييف مراراً بقبول إرسالنا مساعدات إنسانية إلى هذه المناطق، لكنها رفضت. وأعتقد بأن معاناة سكان شرق أوكرانيا لا تقل عن معاناة سكان مدينة غزة الفلسطينية، باستثناء أن إسرائيل تعرضت لقصف من غزة واضطرت للرد، بينما حمل مواطنو شرق أوكرانيا السلاح للدفاع عن أنفسهم أمام جيش وتشكيلات مسلحة تنتهك حقوق الناطقين بالروسية والأقاليم، ونحن لا نفهم لماذا يطالب المجتمع الدولي بتوفير الامن ووقف اطلاق النار في غزة بينما لا يعبّر عن الموقف ذاته في اوكرانيا... إنها المعايير المزدوجة المعروفة لنا والتي يتعامل بها الغرب مع القضايا الدولية». ولا يقتصر الامر على ان العبارة تعكس «اولويات السياسة الروسية الجديدة»، فالجديد هنا انها تبنت حرفياً المزاعم الإسرائيلية لجهة اضطرار اسرائيل لشنّ حرب «دفاعية» بعدما تعرض امنها للخطر. هذه لهجة لم تدرج على استخدامها الديبلوماسية الروسية. والموضوع لا يقف عند «زلة لسان» اقتضتها لحظة المواجهة الروسية – الغربية، فمن تتبع مواقف لافروف منذ بداية الهجمة الاسرائيلية على غزة يجد نفسه أمام خطاب تم صوغه بدقة. في 18 تموز (يوليو)، اي في اليوم العاشر للحرب على غزة وفي اللحظة التي بدأت فيها العملية البرية، قدم لافروف عرضاً مسهباً لموقف بلاده حمل مضامين جديدة. وذكر في حديث الى تلفزيون «روسيا 24» الحكومي ان الرئيس فلاديمير بوتين تحدث في هذا الموضوع الى نظيره الاميركي باراك اوباما والى رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتانياهو، وأبدى «تفهمنا لقلق اسرائيل حيال أمنها بسبب القصف العشوائي» بصواريخ «يدوية الصنع تسقط على أحياء سكنية وبعض منها سقط على بعد كيلومتر واحد من السفارة الروسية في تل ابيب». وأضاف ان موسكو «تفهم مدى خطورة الامر وجدّيته بالنسبة الى الاسرائيليين». وحتى عندما اراد التحذير من خطورة «انفلات التصعيد الامني»، قال ان المطلوب عدم الانجرار الى معادلة «العين بالعين والسن بالسن»، ما عكس مقاربة روسية تقوم على القناعة بندية أفعال اسرائيل والفصائل الفلسطينية. وأشار الوزير الروسي الى ان بلاده دعمت بقوة المبادرة المصرية التي ذكر ان اسرائيل أيدتها، وأن الوقت لم يفت بعد لكي «تستجيب حماس والمجموعات الراديكالية الاخرى غير التابعة لها» في قطاع غزة للمبادرة. وفي حديثه عن العملية البرية، تحاشى الوزير استخدام تعابير إدانة او حتى رفض، لكنه قال إن بدء العملية «يثير اعمق القلق حيال ما سيكون عليه رد حماس وما سيجري لاحقاً». وأكد ان روسيا ترى ان من المجدي والمفيد وساطة مصر بين القطاع وإسرائيل ومساهمتها في توحيد الفصائل الفلسطينية على «اساس مبادرة السلام العربية وليس على اساس المجابهة مع اسرائيل بل الحوار معها». وانتقد الولاياتالمتحدة لأنها عملت خلال سنة على إبعاد «الرباعية الدولية» والادعاء بالقدرة على تحقيق المصالحة بين الفلسطينيين والاسرائيليين بإطلاق حوار حول الحل النهائي، لكنها لم تفلح في ذلك. أمن اسرائيل وفي وقت لاحق، سيطرت اللهجة الجديدة للديبلوماسية الروسية على كل البيانات التي أصدرتها الخارجية وانطلقت كلها من وضع اعتبارات «امن اسرائيل» اولاً، ثم تلت ذلك مصالح «السكان المدنيين في القطاع»، بينما شددت دائماً على وصف الحركات الفلسطينية ب «مجموعات راديكالية»، وهو مصطلح درجت على استخدامه وسائل الإعلام الروسية الداعمة بقوة لإسرائيل (بما في ذلك الحكومية منها)، لكنه لم يستخدم سابقاً في بيانات الخارجية. وكمثال، اصدرت وزارة الخارجية بياناً في اليوم التالي لبدء العملية البرية حذرت فيه من التصعيد ودعت الى وقف المجابهة العسكرية و «وضع حد لآلام السكان المدنيين في اسرائيل وقطاع غزة وحمايتهم من الهجمات الارهابية ومن الاستخدام المفرط للقوة». واللافت ان البيان وضع «آلام المدنيين» في اسرائيل في المقام الاول وتحدث عن «حماية من هجمات ارهابية»، فيما اشار عرضاً الى قطاع غزة وحماية سكانه من الاستخدام المفرط للقوة. لكن هذه اللهجة التي سيطرت على كل التصريحات والبيانات الصحافية الروسية، لا تشكل وحدها الإطار العام لمشهد الموقف الروسي الآخذ في التبلور حديثاً. ففي الخلفية، تحركات مهمة لم تنل حقها من التغطيات الإعلامية على رغم أهميتها البالغة، ومنها الاتصالات التي اجراها الكرملين والخارجية مرات عدة مع رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير الخارجية افيغدور ليبرمان الذي هو بالمناسبة صاحب نظرية ان روسيا ستكون يوماً مركز الدعم الاساسي لإسرائيل. لكن الاهم هو الزيارة الفريدة التي قام بها الى روسيا وفد يمثل حاخامات من اسرائيل وبلدان العالم، والتقى الرئيس فلاديمير بوتين في 10 تموز، أي بعد مرور يومين على اندلاع الحرب، لكن موضوع غزة والعلاقة مع الفلسطينيين لم يطرح على الطاولة اصلاً، وتركز الحديث على «الجهود المشتركة لمواجهة التطرف والنازية وتجلياتها». تحت هذا العنوان، استعاد بوتين مع ضيوفه «التضحيات المشتركة التي قدمها شعبانا في الحرب ضد النازية»، كما قال الرئيس الروسي، مؤكداً للحاضرين ان روسيا ستواصل حربها على اي محاولة للتشكيك بالمحرقة او للانتقاص من عذابات اليهود. في هذا اللقاء، وضع سيد الكرملين معادلة العلاقة مع رؤساء المؤسسات الدينية اليهودية في العالم، فهو قال: «نحن نعتبركم الحليف الاقرب إلينا في هذا المجال ونرجوكم أن تنظروا الى روسيا بهذه الطريقة». اللافت ان الوفد الزائر توجه الى شبه جزيرة القرم، وأحيا هناك احتفالية خاصة بضحايا الحرب العالمية من اليهود، هل اتضح السبب؟ حصل الكرملين على مباركة «اللوبيات اليهودية» في العالم لقرار ضم شبه الجزيرة، وهو مكسب كبير جداً في ظل المواجهة الروسية – الغربية الشرسة التي يحتاج الكرملين فيها الى موقف قوي من جانب مراكز الضغط اليهودية في الغرب وخصوصاً في الولاياتالمتحدة. بهذا المعنى، تتضح تفاصيل التطور الذي طرأ على الموقف الروسي حيال الحرب ومجرياتها في غزة، وبهذا المعنى نفسه جاءت الزيارة المثيرة للجدل التي قام بها السيناتور ميخائيل مارغيلوف الى اسرائيل في أسخن ايام المواجهات بين الفلسطينيين والاسرائيليين ووصفت بأنها «زيارة تضامنية لإسرائيل»، لكن مغازيها ابعد بكثير من مجرد اعلان التضامن، ويكفي تتبع ما دار فيها لإدراك ذلك. ويوصف رئيس لجنة الشؤون الخارجية في مجلس الفيدرالية (الشيوخ) مارغيلوف بأنه «سفير المهمات الصعبة للكرملين»، وهو كان مبعوث بوتين الى العقيد القذافي قبل اطاحته بأيام، كما مثّل الرئيس الروسي في عدد من الملفات الافريقية المعقدة بينها السودان. ذهب الرجل الى اسرائيل في 23 تموز على رأس وفد من اعضاء مجلس الشيوخ، تنقل في «مناطق المواجهة» وأبدى اعجابه الشديد ب «شجاعة سكان اسرائيل وصمودهم في المناطق التي تتعرض لقصف صاروخي منذ سنوات طويلة». وقال لدى وصوله الى تل ابيب ان العلاقة بين روسيا وإسرائيل «شراكة قوية لا تهزّها اي أزمة، وتخلو من أي تبادل للاتهامات والعقوبات». مزيد من اللقاءات ولم ينس ان يفاخر ب «روسية إسرائيل»، إذ قال ان اللقاءات التي يجريها مع لجنة الشؤون الخارجية والدفاع في الكنيست، وأعضاء «الجامعة البرلمانية للصداقة بين إسرائيل وروسيا»، ورئيس الكنيست ووزير الخارجية ووزير الشؤون الدولية والاستراتيجية والمسؤولين في وزارة الدفاع الإسرائيلية كلها «تجرى باللغة الروسية». وأضاف ان على ضوء التطورات وبخاصة عملية الجيش الاسرائيلي في قطاع غزة، فإن البرنامج سيشهد اجتماعات إضافية مع ممثلي المؤسسات العسكرية. وزاد: «جئت إلى إسرائيل في مراحل أكثر خطورة. والتقيت مع ياسر عرفات في رام الله، عندما كان الجيش الإسرائيلي يقوم بحملات قوية، ولذلك فإن الوضع الحالي، في رأيي، ليس الأسوأ. لقد أعجبت دائماً بحيوية هذا البلد وتفاؤل شعبه وقدرته على الحياة». ذلك كان الشق المتعلق بالإعجاب والعواطف، لكن المستوى الاهم في الزيارة كان الثاني، فهو يهدف إلى «زيادة التعاون بين روسيا وإسرائيل على كل الجبهات». فقد قال النائب الأول لرئيس لجنة مجلس الشيوخ الروسي لشؤون الدفاع والأمن اناتولي بونداروك إن «حقيقة أن نتكلم اللغة نفسها، تساهم في فهم أفضل. تواجه بلادنا تحديات وتهديدات مشتركة، لذلك لدينا احتمالات جيدة للتعاون». وخلال الاجتماع، أثيرت مشكلة «محاولات تزوير التاريخ بشكل يمنح الفاشيين الجدد في اوكرانيا وغيرها ما يبرر تصرفاتهم». وغني عن القول ان الوفد الروسي «اعرب عن تعازيه للزملاء الاسرائيليين بجنود الجيش الإسرائيلي الذين قتلوا في العملية في قطاع غزة». وقال عضو لجنة مجلس الاتحاد الروسي للشؤون الخارجية رافائيل زينوروف: «إنهم أبطال دافعوا عن وطنهم». خلف هذا الحوار جرى التوصل الى بلورة وثيقة ب «التهديدات المشتركة وسبل معالجتها»، ونوّه الوفد الروسي بتشابه روسيا وإسرائيل في مشكلات محاربة الإرهاب... وخطورة تبرير تصرفات الإرهابيين تحت اي مسمى. بعد هذه الزيارة، تسربت أنباء في موسكو عن اعفاء مارغيلوف من منصبه الحالي، وترشيحه لمنصب آخر لم يتم الاعلان عنه بعد. خبراء في روسيا لا يخفون اقتناعهم بأن موسكو تتحرك بوحي من مصالحها المباشرة، وأن موقفها من الحرب الاخيرة على غزة تأثر بالحدث الاهم وهو الوضع في اوكرانيا واعتمد على ثلاثة عناصر اساسية: اولاً التوجه لكسب تأييد اليهود في العالم للتحركات الروسية في ظروف المواجهة مع الغرب. ثانياً التخلي عن المبدأ السابق للديبلوماسية الروسية بجمع كل الاوراق الممكنة لتعزيز حضور الدور الروسي في الملفات الاقليمية (ما ظهر من خلال فتح قنوات الاتصال مع حماس في ظل المقاطعة الغربية الحازمة والرفض الاسرائيلي) وإحلال مبدأ آخر مكانه يقوم على توسيع مساحات التفاهم مع القوى الاقليمية التي تشاطر روسيا مواقفها او مرشحة للاقتراب من الموقف الروسي، او على الاقل لديها مشكلات في التفاهم مع الغرب، والحديث هنا عن معسكر «الاعتدال العربي» ممثلاً بالقيادة المصرية الجديدة والسلطة الفلسطينية، وهذا يفسر الحماسة الكبيرة التي ابدتها روسيا للمبادرة المصرية. وفي هذا الاطار، جاء التراجع الروسي عن فكرة كانت طُرحت سابقاً لإعادة إحياء اقتراح عقد مؤتمر دولي للتسوية في الشرق الاوسط، واستبدلته موسكو باقتراح توسيع «اللجنة الرباعية بضم مصر وجامعة الدول العربية، في تحريف بسيط عن فكرة سابقة بأن يشمل التوسيع «اللاعبين الاقليميين الاساسيين وبينهم الاردن والسعودية ومصر». ثالثاً، تستند روسيا في مواقفها حيال الملفات الاقليمية إلى مبدأ التبادلية، وبهذا المعنى لا يخفي ديبلوماسيون روس في جلسات خلف ابواب مغلقة «خيبة امل موسكو» لأن العالم العربي الذي قدمنا له الكثير لم يدعم مواقفنا في اوكرانيا ومسار ضم القرم». الإعلام الروسي يشكك في أعداد الضحايا ما لم يتغير هو أداء وسائل الإعلام في روسيا، فهي منذ اليوم الأول للمواجهة وضعت اللوم على الفلسطينيين بشكل كامل وتبنت بشكل كامل الرواية الإسرائيلية، وفي حال انها نسبت الى «مصادر طبية فلسطينية» أعداد القتلى والجرحى يومياً بهدف التشكيك بصحة الأرقام المعلنة من الجانب الفلسطيني، فهي استعانت في نقل الأخبار والتحليلات اليومية بمصادر عسكرية اسرائيلية وخبراء ومحللين يهود او روس من المقيمين في الدولة العبرية. ويكفي إيراد مثال واحد لتوضيح طبيعة التغطيات الاعلامية في روسيا للحرب على غزة، في برنامج حواري جمع الصحافية الروسية المتخصصة في شؤون الشرق الاوسط يلينا سوبونينا مع الباحثين غيورغي ميرسكي والكسندر شوميلين، وكلاهما يعلن انه «متخصص في شؤون العالمين العربي والاسلامي»، لكنهما يقفان تقليدياً الى يمين «ليكود» في مواقفهما حيال الموضوع الاسرائيلي، اضطرت الصحافية الروسية التي لم يعرف عنها ميلها الى مواقف «حماس» او حماستها للحقوق الفلسطينية عموماً، ان تخوض مواجهة ساخنة لأنها حاولت تسليط الضوء على حجم الدمار والمجازر، وتأكيد ان الحل الجذري للأزمة ليس ممكناً من دون تثبيت مبدأ الدولتين. واضطرت خلال اللقاء الى تذكير الحاضرين بأن روسيا لم تدرج رسمياً «حماس» والفصائل الفلسطينية الأخرى على لائحة الارهاب في استغراب لإصرار محاوريها على استخدام هذه الصيغة لوصف الفلسطينيين، اللافت ان مستوى الحوار وصل الى درجة ان احد الباحثين برر العملية العسكرية الاسرائيلية بقوة مشبّهاً «الارهاب الفلسطيني» ب «العشب الضار الذي ينمو سريعاً، ما يجعل اسرائيل تضطر الى جزّه مرة كل عام او عامين». بدا التشبيه مفزعاً وبعيداً من الانسانية أمام مشاهد الدمار والقتل في غزة، لدرجة دفعت الصحافية الروسية إلى التعليق: اشعر انني اجلس في ستوديو «صدى تل ابيب» في تحريف متعمد ل «صدى موسكو» اسم الاذاعة التي قدمت البرنامج. غني عن القول ان سوبونينا تعرضت لحملة شرسة واتهمت بأنها «معادية للسامية» ولم تعد تُستضاف في المؤسسات الاعلامية الروسية.