نشرت الإدارة الأميركية، في ذكرى مرور سنة على مقتل المطلوب الأول لديها زعيم تنظيم «القاعدة» أسامة بن لادن، وثائق تمت مصادرتها من منزله في «آبوت آباد». الوثائق نشرت على موقع معهد مكافحة الارهاب في ويست بوينت، وعددها 17 وثيقة، مرقمة من 3 إلى 19 بنسخة عربية وأخرى مترجمة إلى الانكليزية. هذه الوثائق جزء من 6000 وثيقة أخذت من المنزل ليلة الثاني من أيار (مايو) عام 2011، وعلى ذلك من الضروري التنبه الى أن الإدارة الأميركية كشفت عن وثائق تريدها أن تصل الى الإعلام، فإن تقديم هذه الوثائق باعتبارها تقدم تصوراً كاملاً لنشاط تنظيم «القاعدة» سيكون متعسفاً منهاجياً. على ذلك نقدم هنا تحليلاً لتلك الوثائق من خلال ارتباطها باستراتيجيات «القاعدة»، والتيار السلفي-الجهادي، وفق ما ورد في النصوص. شأن معظم المتابعين للشرق الأوسط، حتى اللاعبين الأساسيين في الاقليم، كانت ما يعرف ب «حركات الربيع العربي»، مفاجئة للقاعدة والتيار السلفي-الجهادي. حركات شعبية أطاحت زعماء تونس، مصر، ليبيا، واليمن، شكلت مصدر تهديد لأنظمة أخرى كما في سورية. الجهاديون، طالما سعوا لإسقاط تلك الأنظمة بقوة السلاح، وفشلوا طيلة عقدين من الزمان وأكثر، بينما شبان مدنيون وعبر التظاهر السلمي، استطاعوا تحقيق ذلك، والأهم قدموا بديلاً للمحبطين في العالم العربي، ما جعل خطاب «القاعدة» هامشياً في عام 2011. زعيم تنظيم «القاعدة» أسامة بن لادن، كان مأخوذاً بهذه الأحداث، وقبل مقتله بستة أيام (26 نيسان/ابريل 2011) كتب رسالة متناولاً هذه الأوضاع (الوثيقة الرقم 10) إلى قائد عمليات تنظيمه والمنسق عطيه الله اللييبي (جمال إبراهيم شتيوي المصراتي)، وهو ليبي يعد من منظّري الجهاديين الأساسيين، الذي يتكرر اسمه مراراً في وثائق بن لادن التي كشف عنها، في شكل يدلل على أهميته، وقد قتل بعد مقتل بن لادن بأشهر. الحكماء تأخروا يصف بن لادن في رسالته التي تتخذ طابعاً إدارياً واضحاً، الثورات في العالم العربي ب «الحدث العظيم»، ويقول إنها «ثورة الأمة ضد الطغاة»، وإن «الأمة لم تشهد تحركاً بهذا الحجم منذ قرون». وعلى ذلك يوصي مسؤول العمليات في تنظيمه، في الوثيقة ذاتها، بألا يدخل الجهاديون في مواجهات مع الإسلاميين الذين يتوقع بن لادن أن يسيطروا على المشهد السياسي عربياً. ولذا يرى أن من الضروري أن يتأنوا وأن يعتنوا بدور التوجيه عبر الرسائل الإعلامية. ويذكر بن لادن بدعوته لتأسيس «مجلس شورى للأمة»، ولكن لأن «العلماء الصادقين والحكماء تأخروا»، فعلى المجاهدين القيام بهذا الدور. وفي ما يظهر أن بن لادن يراهن على ما يسميه ب «النزوع السلفي» لدى أجنحة داخل الحركات الإسلامية «الداعية لأنصاف الحلول كالإخوان»، فإنه يدرك حالة التهميش للفكر الجهادي إثر الربيع العربي، وهو ما برز في أدبيات الجهاديين، باتخاذ نهج «ناعم» في التعامل مع الجمهور، وهو بالتالي يدعو الجهاديين إلى «الترفق مع أبناء الأمة الذين وقعوا تحت التضليل لعقود بعيدة». انتهج تنظيم «القاعدة»، منذ نهايات عام 2008 سياسة التوسع عبر ربط المجموعات المحلية المسلحة في مناطق جغرافية مختلفة، وهذا وإن ساهم في توسيع نشاطات الجهاديين، فيبدو أنه أيضاً تسبب بعبء على تنظيم «القاعدة» المركزي، وفق رسائل بن لادن، عبر فقدان التأييد الشعبي، بسبب عمليات قتل المدنيين، ولذا نجد رسالة من عطية الله الليبي في الثالث من كانون الاول (ديسمبر) 2010 إلى زعيم «تحريك طالبان باكستان» حكيم الله محسود (الوثيقة الرقم 7)، ينتقد فيها استهداف الحركة للمدنيين والتوسع في مفهوم التترس، الذي يجيز قتل مسلمين إذا كان بهدف قتل الأعداء، وفق بعض المدارس الفقهية الإسلامية. رسالة الليبي شديدة تظهر نفوذ «القاعدة» على الحركة. هذه المسألة يبدو أنها ستكتسب أولوية أكبر مع اندلاع الثورات العربية، فيراسل أسامة بن لادن مسؤول تنظيمه الليبي مرة أخرى في وثيقة رقمها 19 ولكنها مجهولة التاريخ، ولكن من المؤكد انها كتبت بعد بداية عام 2011، ويخبره بتعيينه في منصبه بديلاً من الشيخ سعيد، وهو المصري مصطفى أبو اليزيد «لمدة عامين»، ويطالبه، ضمن مهام أخرى، بالاهتمام بإعادة البحث في مسألة التترس، «بخاصة أن الجهاد توسع في الأقاليم». وبالتالي يحتاج الأمر إلى «إعادة بحث وفق المعطيات المعاصرة». ويؤكد بن لادن مأزق «القاعدة» بسبب ذلك فيقول: «هذه المسائل وغيرها أدت إلى خسارة المجاهدين جزءاً لا يستهان به من تعاطف المسلمين معهم ومما زاد خسارة المجاهدين استغلال الخصوم لبعض أخطاء المجاهدين وتشويه صورتهم لدى جماهير الأمة لفصلهم عن قواعدهم الشعبية ولا يخفى عليكم عظم ضرر هذا الأمر ففقد جماهير الأمة هو شلل الحركات الجهادية». ويذكر أن زعيم تنظيم «القاعدة» الحالي أيمن الظواهري، ركز في واحدة من سلسلة خطاباته التي وجهها بمناسبة الثورة المصرية تحت عنوان «رسالة الأمل والبشر لأهلنا في مصر»، على مسألة عدم جواز التوسع في تفسير التترس، ويبدو أن خطابه هذا يأتي في سياق نقاشات قيادات «القاعدة» عن فقدان الجماهير والشعبية. تأثير «الربيع العربي» في نمط تفكير «القاعدة» وقياداته يتجلى، كما في حالة التترس، في تحذير أسامة بن لادن (وثيقة 19) ل «القاعدة» في المغرب الإسلامي»، و«حركة شباب المجاهدين في الصومال» من قتل رهائن فرنسيين لديهم، بسبب الموقف الفرنسي من ليبيا، حيث إن فرنسا دعمت التدخل العسكري في ليبيا ضد نظام العقيد معمر القذافي، وبالتالي فإن شعبية الفرنسيين عالية وبالتالي من المضر قتل رهائنهم في نظر بن لادن، الذي يدعو للانتظار حتى انتهاء احداث ليبيا، «ومن ثم قتلهم أم مبادلتهم بأسرى آخرين»، أو الانتظار لحين الانتخابات الفرنسية، إن استطاعوا ذلك. وكلاء أميركا ولتجاوز حالة قد تصيب «الحركة الجهادية» بالشلل، وفق تعبير بن لادن، والتعامل مع حالة «الربيع العربي»، يدعو زعيم تنظيم «القاعدة» السابق جهادييه إلى التركيز على فكرة «التوجيه والإرشاد» لحركات الربيع العربي، وتقوم فكرته التي يدعو إلى استحضارها على «أن جهاد «القاعدة» في أفغانستان لإقامة شرع الله واستنزاف «رأس الكفر العالمي» «مكّن الشعوب المسلمة من استعادة بعض الثقة والجرأة وأزال عنها الضغط القاهر الذي كان يرهق ويحبط كل من يفكر بالخروج على وكلاء اميركا». لا يكتفي بن لادن بتقديم النصح العام بل يقدم في رسالته لليبي (الوثيقة الرقم 19) مجموعة من الخطوات العملية، وأهمها: «حث الشعوب التي لم تثر على الحكام بعد على الثورة... والتركيز على الحكام وإسقاطهم من دون الاهتمام بالمسائل الخلافية...». وفوق هذا يطالب أسامة بن لادن ب «إرسال كفاءات إلى ميادين الثورات في العالم العربي، للتنسيق مع القوى الإسلامية»، بعد التأكد من سلامة الطريق والانتقال. من الملاحظ أن رسائل بن لادن تظهر سعياً لمحاولة البحث عن موطئ قدم في الثورات العربية، وتقديم خطاب «ناعم»، لجذب الجماهير، ولكن في المقابل يبدي استعداداً للتنسيق مع القوى الإسلامية. ومن الملاحظ أيضاً أن حالة الانسداد التي وصلت اليها الحركات الشعبية في العالم العربي، ستتيح فرصاً أقوى لتنظيم «القاعدة» وللجهاديين عموماً للانخراط وكسب مساحات جديدة، بخاصة أن التيار وكما يتضح من وثائق بن لادن يجري مراجعات متكررة لاستراتيجياته ولخطابه. بن لادن والظواهري: اختلاف نمط القيادة تبرز الوثائق أن أسامة بن لادن كان مهتماً بإدارة شؤون «القاعدة» على المستوى العملياتي، ولم يكن مجرد رمز للسلفيين الجهاديين، فعلى سبيل المثال في الوثيقة رقم 15 (21 تشرين الاول - اكتوبر 2010)، وهي رسالة لمسؤول العمليات في التنظيم عطية الله الليبي، يرتب بن لادن تراتبية التنظيم، وآليات العمل، وحتى الاجراءات الأمنية للحذر من الطائرات من دون طيار، وللتعامل مع المراسلين الذين ينقلون الرسائل بين القيادات، وحتى أن بن لادن يقدم التوجيه حول كيفية تسلم الفدية عن المختطفين، كاستئجار منزل خاص للعملية، والتخلص من الحقيبة بعد تسلم الأموال، ومن ثم تصريف الأموال باليورو أو الدولار، ومن ثم تسليم المال لشخص ثالث، واللقاء دوماً في مكان له سقف لتفادي الطائرات...الخ. كما أنه يدعو تنظيم «القاعدة في المغرب الإسلامي» إلى زرع أنواع مختلفة من الشجر، وسقيها وحمايتها من الماشية، لاستخدامها كميزة استراتيجية. كل هذه الأمور تدلل على إدارة بن لادن حتى للتفاصيل الصغيرة للسلفيين- الجهاديين، ولكن الفارق الواضح بينه وبين أيمن الظواهري يتعلق بالاختلاف حول استهداف «العدو القريب» أم «العدو البعيد». فمن المعروف أن هذه الثنائية تعد من المفاهيم المؤسسة للتيار السلفي- الجهادي بين من يرى بوجوب جهاد العدو الخارجي سواء كان الولاياتالمتحدة أم إسرائيل، أو الهند أو روسيا...الخ باعتبارها دولاً «تحارب الأمة»، وبين من يرى بأن «قتال الأنظمة المرتدة والكافرة» مقدم على العدو الخارجي، وهو الرأي الذي أسس للمجموعات الجهادية في مصر نهاية السبعينيات». الفارق، وليس الخلاف، بين بن لادن والظواهري، يرتبط بأولوية قتال أي من العدوين، ولكن من الضروري التذكير أن لا خلاف في عداوة كلا الطرفين «البعيد والقريب»، بل هو اختلاف في الاستراتجيات. بن لادن كان دوماً يفضل استهداف العدو البعيد. في رسالة موجهة على الأغلب من عطية الله الليبي مسؤول العمليات في تنظيم «القاعدة» الأم إلى زعيم «تنظيم «القاعدة» في جزيرة العرب» أبو بصير الوحيشي، ولكنها تعبر عن أفكار بن لادن، بمعنى أن بن لادن أرسل النقاط الرئيسة التي يريد تبليغها لفرع اليمن الى عطية، وتركز على مسألة استهداف العدو البعيد، فتقول الرسالة (وثيقة 16): «أود تذكيركم بالسياسة العامة للقاعدة في المجال العسكري والإعلامي، فقد تميزت «القاعدة» في تركيزها على العدو الأكبر الخارجي قبل الداخلي، وإن كان الأخير أغلظ كفراً إلا أن الأول أوضح كفراً، كما أنه أعظم ضرراً في هذه المرحلة. فأميركا هي رأس الكفر فإذا قطعه الله لم يعص الجناحان». وتفضيل استهداف «العدو الخارجي»، يتضح أنه كان مصدراً لانتقاد أسامة بن لادن، إذ أنه أيد الهجمات في السعودية، كما تظهر رسالة وصلته من الرياض، من شخص لا يعرف اسمه، ويؤكد على اقتناع بن لادن بأولوية استهداف «العدو البعيد»، وينتقده لتحوله نحو «العدو القريب» (وثيقة رقم 18). وفي رسالة أخرى موجهة من بن لادن إلى عطية (وثيقة رقم 3)، فإنه يطالب بالتهدئة في باكستان، والتركيز على مقاتلة الأميركيين والتهدئة في باكستان. ويطالب بالأمر ذاته في اليمن في رسالة أخرى. العدو القريب والظواهري في تحليل أجراه كاتب السطور لخطابات كلا من الظواهري وبن لادن بين عامي 1998 و2011، وجد أن 70 في المئة من خطابات أسامة بن لادن ركزت على استهداف العدو البعيد، بينما ركزت 20 في المئة منها على تقديم النصح والمشورة، وركزت 10 في المئة فقط على استهداف «العدو القريب»، وهو ما يدلل على دور بن لادن الاستراتيجي، وليس الرمزي فقط. بينما خطابات الظواهري ركزت بنسبة 50 في المئة على «العدو القريب»، بينما ركزت 15 في المئة من خطاباته على العدو البعيد، والبقية تركزت على النصائح العامة والمشورة، وهو ما يدلل على تأثير الفكر الجهادي «الانقلابي»، والذي تحالف مع السلفية في أفغانستان لاحقاً، في نمط تفكير الظواهري. وفي تدليل على الفارق بين استراتيجية الرجلين، يلاحظ من رسالة مرسلة من أسامة بن لادن إلى منظر حركة «الشباب المجاهدين» في الصومال، مختار أبو الزبير، بتاريخ السابع من آب (اغسطس) 2010، نصحه بعدم الاعلان عن الارتباط ب «القاعدة» للملأ بل إبقائه سراً، كي لا تتأثر المساعدات له ولبلاده، ولا يكتسب العداء من المجتمع الدولي بحكم هذا الارتباط (الوثيقة 5). ولكن بعد أربعة شهور تقريباً يرسل أيمن الظواهري رسالة إلى بن لادن (الوثيقة 6 / 2010)، يختلف فيها معه ويقول: «أخشى أن يدفعهم هذا التصور – إن كان واقعاً – إلى ممارسة الضغوط علينا أن لا تقولوا كذا، أو تبرأوا من كذا، أو أعلنوا عدم صلتكم بكذا، أو انفوا ارتباطكم بكذا ... الخ . ولذا أرى من الضروري جداً تأكيد ارتباط «القاعدة» بفروعها وإعلانه حتى يصير أمراً واقعاً لا فائدة من إنكاره، ولذا أرجو أن تعيدوا النظر في رأيكم بعدم إعلان انضمام إخوة الصومال، حتى لا يضغط علينا في ما بعد أن نعلن عدم صلتنا بهم أو بغيرهم، والله الموفق لكل خير». وأعلن أبو الزبير في شباط (فبراير) 2012 البيعة لأيمن الظواهري، كما أن التحدي الذي واجه التيار السلفي- الجهادي بفعل الربيع العربي ، جعل التركيز على «العدو القريب»، يتوافق مع القيادة الجديدة لتنظيم «القاعدة».