أخيراً عادت مهرجانات بعلبك الى قلعتها التاريخية محمولة على نشوة عامرة بالتحدي الإبداعي وإرادة الحياة في وجه الأخطار الحقيقية وتلك المدسوسة كالسم في عروق اللبنانيين وضيوفهم من كل حدب وصوب. كثر قالوا السنة الفائتة ان غياب المهرجانات عن بعلبك لن يتوقف عند موسم واحد بل إنها النهاية والسلام على تلك التظاهرة الباعثة على التفاؤل والشاهدة على رسالة بلدنا الصغير في هذه المنطقة المضطربة على الدوام. لكن المهرجان ردّ بكلا! ومن أمامه بعلبك المدينة ولبنان الدولة وجمهور غفير جاء ليفقأ حصرم الفرح في عيون الحاسدين والمفسدين على السواء. بصراحة ، لم أكن واحداً من جمهور عاصي الحلاني في المطلق، بل أحببت أغانيه البدوية وأعجبت بروحه الحامية، كونها شهادة لا لبس فيها على أصالته. ولعل ما يزيد هذا الاعتراف صراحة انني اتخذت موقفاً سلبياً من معظم نتائج الغناء العربي في الحقبتين المنصرمتين، وبقيت ذائقتي معلقة بتلابيب العصر الذهبي: الرحابنة، وديع الصافي، عبد الوهاب، ام كلثوم الخ... لم يقلب عاصي الحلاني ذلك الموقف رأساً على عقب، لكن افتتاحه مهرجانات بعلبك مساء أول من امس، فتح ثغرة ايجابية في نظرتي الى ما درجنا على تسميته «طرب ما بعد الحرب اللبنانية» ولذا اعتقد بيقين عميق ان عاصي الحلاني ورفاقه في «عاصي ...الحلم» تليق بهم التهنئة الحارة والنقد الهادئ البناء في الوقت نفسه. لم أشهد في تاريخ مهرجانات بعلبك فوضى تنظيمية كالتي رأيتها ليلة الأربعاء المنصرم. سمعت مواطناً معصوراً في خنقة المدخل يقول: «جاء الرسميون... نواب ووزراء وحاشيتهم وبدلاً من خضوعهم للقانون كسروه وفكوا رقبتنا!». وكان المعصور يشير الى اقتحام سيارات ومواكب النافذين على انواعهم محيط القلعة الممنوع على المركبات أصلاً مما ادى الى ازدحام خانق في المداخل لا مسوغ له، بل انسحبت آثاره على عملية دلَ الجمهور الى مقاعده ناهيك عن اصابة فريق واسع منه بعدوى الفوضى...الرسمية. عدا ذلك كان المساء شبه صحراوي عليل وفي مقدورك ان تلمس جمرة التوقعات المشتاقة على بشرة الجوّ. ولم يتجاوز التأخير المتوقع حجمه العادي قبل ان تهب العاصفة من قلب غيمة اصطناعية أعلى أدراج هيكل باخوس ومنها بزغت قبيلة رجال قالوا للصخر طِر فأفرد جناحيه وطار! ذلك الهدير الذكوري الصاخب نزل بقوة وأينع دبكة بعلبكية مرحّبة. إذاً إنه المدخل القوي العالي وعليه تترتب اللواحق المشهدية بأسرها. من الناحية البنائية في المسرح والدراما يعتبر المدخل القوي مخاطرة يحسب لها الف حساب وتطرح اسئلة صعبة اهمها: الى اين من هنا؟ وهل نستمرّ في التصعيد؟ هل لدينا ما يكفي لزرع الأفق بقمم متساوية العلو، أم علينا ان نهبط رويداً رويداً كي نسترد زمام الايقاع ونعود دائرياً الى القمة في النهاية؟ لست متأكداً ان جو مكرزل، مخرج العمل أولى تلك الأسئلة ما يكفي من الوقت والاهتمام، لأن الحالة العالية استمرت ودفع عاصي بخيوله السوداء الجامحة الى الحلبة واحداً بعد الآخر: حالة قلبي، جن جنوني، مالي صبر... وفي الخلفية المشهدية برع راقصو الفرقة، خصوصاً في المقاطع البدوية، بتلوين الحركة وتثليث أبعاد الموسيقى. لكن الهبطة التقنية وقعت في غضون الساعة الأولى على بدء العرض. الجمهوراستنفد حماسته وبات صعباً على عاصي اعتباره داعماً معنوياً غير مشروط. مصمم الرقص فرانسوا رحمة قال لنا، ربما من دون ان يقصد، إن اللون البدوي هو القوة المحورية الملهمة في مسيرة عاصي الحلاني، وبرزت تلك الحقيقة بوضوح في تناغم الرقصات ذات اللون العربي بصورة عامة، مع الموسيقى والكلمات، فيما كانت الرقصات المتغّربة أقل تأثيراً في نفوس الجمهور. أما المجازفة بإشراك مراد بوريكي في ثنائي إنكليزي- عربي فجاء بتيجة هجينة وفاترة على رغم الحضور المتين لموهبة مراد في ما تبقى من الأمسية. وكان لافتاً شعر أسعد جوان الذي كتب مداخل الفصول الأربعة لمسيرة الحلاني بلغة محكية أنيقة، طريفة، مرهفة أعادتنا الى زمن اللياقة الأدبية في أجمل تجلياتها. عموماً جاءت «عاصي ... الحلم» في وقتها شهادة على المخزون الفني - الإبداعي الذي ما زال حاضراً لمقاومة التخلف والتعصب والتكفير بالفن والثقافة والتراث الواحد الذي لن يتمكن من هدمه في نفوسنا هادمو دور العبادة ومدنّسو أضرحة الجدود.