لم تكن ليلة أول من أمس عادية في قصر «يونيسكو» في بيروت. إذ اجتمع فيه الشعر والأدب مع الموسيقى والغناء الراقي، إنّما ليس أيّ أدب، وليس أيّ صوت، إنّه أدب أحلام مستغانمي وشعرها... وصوت جاهدة وهبة وموسيقاها. حفلة يصعب وصفها أو تصنيفها، أهي حفلة غنائية؟ نعم، ولكن ليس هذا فحسب. هل هي أمسية شعرية؟ نعم، ولكنّها أكثر من ذلك. إنّ تلك الحفلة أشبه بلحظات نادرة تنطبع في ذاكرةٍ تبحث عن مشهد جميل أبيض تختزنه للأيام السود. ولكن، هل يجوز أن نتكلّم على الذاكرة الآن في وقتٍ تدعونا مستغانمي، مدعومةً بصوتِ وهبة، إلى النسيان؟ نعم سنتكلّم على الذاكرة لأنّ أحداً من الحاضرين لا يستطيع نسيان تلك اللحظات الرائعة التي أمضاها في تلك الحفلة. الممثل جهاد الأندري تولّى مهمّة تقديم مستغانمي ووهبة، فكان الشخص المناسب في الدور المناسب. إذ استطاع أن يوصل، عبر إلقائه المميّز، كلماته المنتقاة بعناية لتصيب واقع هاتين السيدتين، فقال مقدّماً وهبة: «في هذا الزمن الهزيل أدعوكم للانتقال إلى زمن جاهدة وهبة»، فأطلّت جاهدة على المسرح مع ضحكتها التي لا تفارق محيّاها وغنّت «كتبتني»، ثمّ رحّبت بعدها بالحضور قائلةً: «أقبّلكم بقبلةٍ ذاكرية مع أنّنا ندعوكم إلى النسيان». غنّت وهبة فغنّتنا وأغنتنا بعدما كنّا بدأنا ننسى معنى الغناء. كنّا قد بدأنا نعتاد على «البلاي باك»، أو بالأحرى بدأنا نُجبَر على تلك العادة السيئة، ولكنّ أمثال جاهدة ما زالوا موجودين لانتشال مسامعنا من حفرةٍ وقع فيها الفنّ فهبط الفنّانون خلفه! غنّت جاهدة a capella أي من دون مرافقة موسيقية، فمن يجرؤ اليوم على خوض تلك المغامرة الفاضحة؟ غنّت أيضاً بمرافقة آلة البيانو الغربية كما بمرافقة آلة القانون العربية، وأنهت الحفلة بأغنية «أيّها النسيان هبني قبلتكَ»، والتي رافقتها رقصة مميّزة في الخلف. تحدّثت مستغانمي عن بيروت وعن المحبّة بينهما، فقالت ممّا قالت: «بيروت نصبت لي كمين محبّة فوقعتُ فيه، فنحن دائماً ضعفاء أمام المحبّة... ما من كاتبٍ عربي إلاّ وكتبته بيروت... ما من كاتب عربي إلاّ وخان وطنه مع بيروت...». وعن كتابيها الجديدين تحدّثت أيضاً، موضحة أنّ الكتاب الأوّل سياسيّ عن العراق عنوانه «قلوبهم معنا وقنابلهم علينا»، أمّا الثاني فهو «نسيان. كوم» الذي يمكن اعتباره «جريدة نسائية ضدّ الذكورة دفاعاً عن الرجولة»، فتوصي فيه كل امرأةٍ: «أحبّيه كما لم تحب امرأة وانسيه كما ينسى الرجال»! أمّا عن وهبة، فقالت: «لقد ورّطتني بالشعر، ما كنت أعرف قبلها أنني سأقترف قصيدة... صوتها بإمكانه أن يرفع أيّ نصٍّ إلى مقام الشعر، وحتّى عندما أسمعها تغنّي لي، لا أكاد أتعرّف على نصوصي، وأصاب بالذهول الجميل وبالرعب أيضاً».