بين مطرقة التقليد وسندان التبعية صار العقل العربي ثابتاً لا يستطيع من هذا الموضع فكاكاً ورسخ هذا العقل بين شقي الرحي حتى طحنه الواقع وأضاع ما تبقى من ملامحه. الذاتية العربية الضائعة هي موضوع كتاب «اغتيال العقل» الذي سطره المفكر برهان غليون وفيه يحاول القاء الضوء على بعض اشكاليات الثقافة العربية ووضعها الراهن... السكولستيكية أو النقاش خارج الواقع نبدأ رحلتنا مع الكتاب انطلاقاً من هذا المصطلح غير المتداول والذي لا يستخدمه الكثرة على الرغم من أنه يشكل معناه أحد أهم الأسباب التي تتمحور حولها أزمة الذاتية العربية ومحنة عقلها الجمعي. (والسكولستيكية) نعني بها انغلاق العقل داخل دائرة اطروحات وقضايا تبلورت في وضع وحقبة معينين، فأصبحت هي التي تتحكم برؤية العقل للواقع وتمنعه من تحديد أدواته وطرائقه بالاحتكاك مع التجربة المتغيرة والملاحظة المباشرة وتجعله لا يعيش الواقع إلا على مستوى القضايا والأفكار المصاغة مسبقاً، وهذا معناه أن السكوليستيكية هي عجز الفكر عن الإمساك بالواقع أو التحكم فيه. وفي هذه المقدمة البليغة يصوغ المؤلف أحد براهينه على توصيف الحالة الفكرية العربية الراهنة مستعيناً بمصطلح نادر الاستخدام وكم كان موفقاً حين عبر عن أصل السكولستيكية بأنها «عجز الفكر عن الإمساك بالواقع» والشاهد للعيان أن مكمن داء الثقافة العربية هو الواقع الذي تعمي دائماً الثقافة هذه عن رؤيته وتوصيف أحواله وصفاً يتيح لهذا العقل استبيان طرائق وسبل التعامل العملي والمنهجي معه مما يجعل هذا الواقع دائماً في وضع أعلى من مستوى فهم وإدراك العقل العربي الذي أصبح في حالة سبات ان جاز التعبير. ولكن السؤال البديهي والذي يطرح نفسه في هذا المقام هو عن أسباب تسيد هذه الحالة على العقل العربي... يجيب الأستاذ غليون على هذا السؤال بالقول «إن للسكولستيكية العربية جذوراً أعمق قائمة في قلب عملية التحول الثقافي الذي نعيشه منذ أكثر من قرن. فعندما تتعرض ثقافة ما الى دفق متواصل من مفاهيم وأفكار جديدة لا تستطيع أن تقاومها ولا أن تستوعبها داخل أطرها النظرية يحصل أحد أمرين. اما ان تتفكك بنيتها القديمة ومن ثم تتحول الى ثقافة مستقلة متكاملة لها أطر جديدة وتكون ذات انسجام ذاتي، أو أن تعدل من آلياتها وتكيف نفسها مع المفاهيم والأفكار الجديدة، حتى لو جاء ذلك على حساب التحامها بالواقع والتصاقها به. وهذه هي احدى العمليات الأساسية لإعادة تغيير الواقع وتحويله بما يتطابق مع فكرة جديدة أو نماذج خارجية وهي أيضاً أحد مصادر التجديد. لكن هذا التجديد لا يحصل إلا في فترة تالية. إذ أن النظام الفكري الذي يخضع لعملية حقن سريع بالمفاهيم الجديدة التي تعكس واقعاً آخر أو تشير اليه يفقد صلته تدريجاً بالواقع المحلي وبالتجربة الحية ويتحول الى نظام مستهلك عاجز عن الإبداع. أو ليس العجز من الإبداع هو أوضح معالم العقل العربي؟ كم كان المفكر برهان غليون موفقاً حين شخص أزمة الإبداع عند العقل العربي هذا التشخيص العلمي المنهجي السليم... وجعل من أزمة الإبداع «بل حتى والتعايش العادي مع الواقع» نتيجة حتمية ومنطقية لمفارقة الفكر للواقع وتباعد النموذج المطروح من قبل الخطاب التقليدي للحياة المعاصرة بكل أشكالها، عندئذ لن يجد هذا العقل المهزوم إلا أن يعادي الواقع بدلاً من أن يعادي الأسباب التي جعلت منه خصماً لهذا الواقع بل ولن يقف العقل عند خط المعاداة فقط بل سيمتد الى مرحلة مرضية أكثر خطورة، ألا وهي انكار الواقع ذاته... انكار الواقع الحي المعاش المرئي للعين. ويبرهن غليون على ذلك بما نصه الدراس الاجتماعي الذي تشرب مفاهيم الطبقة والفرد والمشروع الصناعي والأمة... الخ... ولا يبدأ من تحليل العلاقات الاجتماعية عندما يدرس مجتمعه وإنما يبحث في هذه العلاقات عما يتماشى مع المفاهيم التي يحملها. وعندما لا يتحقق من وجودها، أو عندما يكتشف أنها تعمل في شكل ناقص أو مختلط مع مفاهيم العائلية أو الطائفية أو القبلية أو الجهوية المحلية فليس أمامه إلا أن يرفض هذه المفاهيم أو أن يعدل من طريقة استخدامها أو يعلن إذا أراد الاحتفاظ بها كما هي ان الواقع هو النشاز والخاطئ والمتخلق واللاعقلاني. الهوية والتراث والحداثة وما إن يأتي ذكر الحداثة حتى يأتي في أعقابها ذكر التراث كمقابل لها. وبين التراث والحداثة... تتبلور أزمة الهوية الحقيقية... أزمة فصام الوعي... فالأصوليون يرون ان الحضارة كامنة بالقوة في الثقافة المحلية أو في التراث ولا تحتاج إلا مناخاً يهيئ ظهورها أما أهل الحداثة فيرون أن المدنية كامنة في الحضارة ذاتها ويكفي استيرادها أو توطينها حتى تحقق العودة الى التاريخ... ويصيغ المؤلف قانوناً يرى أنه يحكم هذه الإشكالية العربية المزمنة ومضمون هذا القانون (المبدأ) هو انه كلما زادت قوة الحداثة وآثارها، زادت قوة الدفع المعاكسة نحو التأصيل والتواصل مع التراث وذلك بقدر ما أن المشاركة في الحضارة تبقى استهلاكية وتعني عندهم تفكيك الثقافة المحلية. لذلك تزداد مطالب الهوية أكثر مع تقديم التحديث وقصور الثقافة المحلية عن التحكم فعلياً بسلوك الناس والتأثير في أفكارهم. ولقد توصل غليون الى نتائج في كتابه موضع الحديث يمكن ترجمتها بإيجاز كما يلي: ليست الحداثة، كما يقول التراثيون والنظرية الأصولية، ثمرة للغزو الفكري الغربي أو لتآمر بعض المثقفين المحليين مع الأجنبي انما هي النتيجة المباشرة لفقدان الثقافة العربية تدريجاً تحكمها بالواقع وبسلك الناس والجماعات وأفعالهم وذلك بقدر ما أصبح هذا الواقع يحدد من قبل ثقافة أخرى. هي ثقافة الحضارة التي تخلقه. ويذكر المؤلف «التفويت الثقافي» هنا بمعنى «الشعور المتزايد لدى شعوب العالم الثالث بفقدان ثقافتها القومية للقيم الحية والإيجابية وهذا الشعور ناتج مما حصل للحضارات السابقة من تدهور وما أصاب ثقافتهم من حرمان حتى فقدت قيمتها التاريخية ولم يعد بينها وبين الواقع صلة كبيرة». ويتوصل غليون الى نتيجة نحن أحوج ما نكون اليها وأحوج ما نكون الى طرحها للنقاش العام ووضعها موضع الحديث في مختلف منتدياتنا وهي النتيجة التي صاغها بقوله: «ان الاستمرار في المباهاة بقوة الثقافة العربية القديمة وعظمتها وعدم الاعتراف بالأزمة الحقيقية والعميقة التي تمر بها، لا يعني النجاح في تأكيد موقعها وتثبيت أقدامها أمام الغزو الفكري الأجنبي. بل هو الطريق الرئيسي لتوسيع مجال هذا الغزو والتمكين له فهو يشكل تجاهلاً للدوافع العميقة نحو الحضارة ومطابقة آلية بين الحضارة والاستلاب. لنا عند هذه النتيجة وقفة لا بد منها لأنها تذكرنا بما ذكرناه في أول المقام من تسيد فكرة السكولستيك على الذهنية العربية وكم أن الفكر العربي وأطروحاته مفارقة للواقع وهذه النتيجة الأخيرة تبرهن على ذلك فمفارقة الواقع تتجلى في أوضح صورها في هذا الخلق العربي العتيد ألا وهو «المباهاة بما مضى» ويُقصد به الماضي ككل كوحدة واحدة، فكونه ماضياً معناه لدى العقلية العربية العامة أنه مبعث للزهو والفخار بل وأن الرجوع الى كامل الحالة التي يمثلها هذا الماضي يقف حائط صدٍ أمام محاولات العبث بنا وبواقعنا... ونكمل مع المؤلف مبحث القيم ونستكمل عرض نتائج بحثه بالوصول الى نتيجة أخرى مفادها ان الميل الى الحداثة والتحديث لا ينبع من ترك الثقافة المحلية أو هجر التراث أو عدم احيائه ولا من التخلي عن الهوية بل من تحويل الثقافة المحلية الى مصدر من مصادر الميل للحداثة وزيادة التطلع الى الاندراج في الثقافة العالمية الصاعدة كمنبع للقيم الفاعلة وتحقيق انسانية الإنسان. إن النظر الى التراث كمصدر للاحتفاظ بالهوية ما هو في الواقع إلا حل شكلي هروبي لمسألة الذاتية. ولا بد أن ندرك ان الحفاظ على الهوية، هو أكثر من استرجاع الماضي... وهذا أمر لا يتوافر إلا بقدر ما تنجح الذات في أن تكون مشاركة ايجابياً في الحضارة القائمة ومبدعة فيها. ان الثقافة الغربية الحديثة الفعالة في الحضارة هي أكثر من كل الثقافات الأخرى ارتباطاً بالتراث وليس في حجرها من يطرح مسألة التراث والمعاصرة. ويبدو ان العلاقة المزمنة بين مصطلحي الحداثة والتراث وبين مؤيدي وأنصار كل من المصطلحين ومعارضيهما ستظل ولفترة طويلة تشغل فكر وبال كثير من المفكرين في الوطن العربي ولسوف يظل المعنى الكامن وراء هذين المعنيين (الحداثة والتراث) معنى مبهماً يفسره كلٌّ من أنصاره ومعارضيه بما يحلو من التفاسير وبما يعضد وجهة نظره ويؤيدها... ويبدو أيضاً أننا نحتاج الى وقت طويل حتى نرحل عن المربع رقم واحد وننتقل من حال (الحديث) الى حال (الفعل) ولكن هذا الترحال يحتاج الى زاد... ولا أحد حتى الآن يعلم (على كثرة ما كتب) ما هو هذا الزاد حيث أننا أيضاً نختلف حوله وحول ماهيته. ولكن الشاهد الذي لا تخطئه عين هو أن السيادة اليوم لنصرة التراث بكل ما فيه من عداء للحداثة بمجمل ما تطرحه وأن هناك احساساً جارفاً بالعرفان تجاه (التراث) بما يحمله من قيم تقليدية وإحساساً مقابلاً بالتوجس تجاه (الحداثة) بكل ما تضعه من قيم حضارية وأن الاعتراك بينهما شديد ويبدو أنه سيظل على أشده فترة من الزمن حتى يضع العقل العربي أوزاره ويحط في أرض الواقع بعد طول تخبط. لكن السؤال أليس كل ما مر بالواقع العربي كفيل بأن يجعله يلتفت ولو لحظة لكنه أمره وحقيقة وضعه؟ وماذا يحتاج العقل العربي الى أكثر مما حدث ويحدث له حتى يفيق من سباته (الماضوي) ويغتسل من درن الوهم والإحساس الكاذب بالاكتفاء.كم نحتاج الى مقولة برهان غليون والتي سطرها في ثنايا كتابه عن أننا نحتاج أن نُحيي التراث ولا نحيا به ولكن الشاهد المعاش أننا نحيي التراث لنحيا به، ولذلك لا حياة لنا في عالم الصيرورة الدائمة والتغيرات المتسارعة والحضارة التي سادت وتسيدت بقيم ومرجعيات هي أبعد ما تكون عن القيم التي يطرحها التراث الذي نحيا جميعاً في ظل شجرته الوارف ظلها كذباً.