يثير فضول المتجول في قلب مدينة الفاشر مشهد متكرر لنساء يحملن قدور ماء على رؤوسهن. لكنه مشهد معتاد بالنسبة إلى سكان هذه المدينة العريقة، إذ إن انخراط المرأة في الأشغال اليومية بات أمراً عادياً في حياة إقليم درافور حيث لم تترك النساء باباً للرزق إلا وطرقنه: بيع سلع الاستهلاك اليومي مثل البصل والطماطم في سوق المدينة، حصاد الفول السوداني من المزارع الطرفية، حمل الطوب والماء في ورش البناء... على كل حال، وجود النساء يبدو طاغياً على حساب الرجال، في الإقليم المنكوب جراء حرب ضروس دخلت عقدها الثاني. حواء إسماعيل انتهت لتوها من تقطيع كومة من الحطب بالفأس قائلة: «كل يوم في السابعة صباحاً آتي إلى هذا المكان وأجمع ما أجد من الحطب، في المتوسط أجمع 10 عقد أبيعها لاحقاً لنساء الحي مقابل ربع دولار لكل عقدة، لدي طفلتان أعيلهما من هذا العمل وأوضاعنا جيدة». غالبية النساء في دارفور فقدن أزواجهن في الحرب، بينما غادر بعض الرجال صوب مدن أخرى في السودان بحثاً عن عمل أفضل. قلة منهم بقيت دارفور، يمارسون أعمالاً موسمية في الزراعة والبناء. فيما لا يتجاوز أجر اليومية نصف دولار للرجال، والنساء يتلقين نصف هذا الأجر، لذلك أصبح أصحاب العمل يميلون لتشغيلهن. ويقول زوج حواء، موسى شارحاً مشكلة العمل في المنطقة، وداعياً محدثه إلى تناول الطماطم المقطعة التي أعدتها زوجته للضيافة. هنا تشعر بأن الفقر يشارك الدارفوريين حياتهم في كل تفاصيلها، ذلك الذي تمنى الإمام علي بن أبي طالب قتله لو كان رجلاً، يبدو حياً يرزق في أزقة الفاشر ويشارك الآن عائلة موسى طبق الضيافة. في المساء تختفي معالم الحياة في الفاشر تماماً. الجميع يحذرك هنا من أن غياب الأمن وانعدام الكهرباء يحفزان المتمردين الذين يحيطون بعاصمة الإقليم على تنفيذ غارات ليلية يسطون فيها على عابري السبيل وتعيسي الحظ الذين لم يتمكنوا من بلوغ المدينة في ضوء النهار. أصوات الطلقات النارية تسمع دورياً حتى وسط المدينة الآمن نسبياً، لكنها لا تكاد تلفت انتباه أحد من الدارفوريون المعتادين عليها. أكثر ما يحرص عليه أحدهم هنا هو إلصاق المذياع بأذنه، ليغط في نوم عميق وهو يستمع! يصر عضو البرلمان المحلي في ولاية شمال دارفور عبدالله التاج على أن عمل المرأة في الإقليم ظاهرة ثقافية في الأساس تعود لتقاليد القبائل في مجمل غرب السودان: «حتى في أيام سلطنة الفور كانت المرأة تشارك بمساواة في أعمال البناء والزراعة وحتى في الأعمال العسكرية، المرأة الدارفوية تختلف عن باقي نساء السودان باختلاف العادات والتقاليد وهذا الأمر مشابه لما يحدث في كردفان مثلاً، لكنه ليس موجوداً في ولايات شمال السودان». ويلفت التاج إلى أن الحرب لم تنتج الظاهرة، لكنها وسعت إطارها: «النزاع زاد من الضغوط الاقتصادية على الأسر، ما وسع حضور النساء في أعمال مثل الأحمال الشاقة، لكن عمل المرأة كان موجوداً من الأساس». ولا تعارض زكية آدم التي تعمل في حصاد الفول السوداني هذا الرأي كلياً، لكنها تشدد على ضرورة تصويبه: «النساء هنا كان يعملن دائماً، هذا صحيح، ولكن كنا نعمل في البيوت، كنا نزرع مساحات صغيرة داخل منازلنا ونساعد أزواجنا في بناء المنزل، بينما الآن أصبحنا نعمل في أماكن بعيدة ونعود إلى المنزل في وقت متأخر جداً. الوضع اختلف، نحن نحتاج للمال». ويعج سوق المدينة الرئيسي بأصوات متداخلة لنساء ورجال وأطفال صغار. كل يروج لسلعته. حضور الرجال يقتصر إجمالاً على المتاجر المبنية حيث تباع الأقمشة والعطور، بينما تسيطر النساء على الوسط المكشوف للسوق. يفترش معظمهن الأرض، يعرضن سلع الاستهلاك اليومي، فيما يقف صبية خلف طاولات خشبية بالكاد تتحمل ثقل أحذية البلاستيك المعروضة للبيع. وصحيح أن السوق يبدو بعيداً من العالم المعاصر، لكن في طرفه ما يوحي بتواصله بشكل ما مع ذلك العالم، إذ يعرض بعض الشباب في أكشاك صغيرة صحف اليوم السابق، بجانب قوابس كهربائية نقالة يمكنك استخدامها لشحن بطارية هاتفك الجوال نصف ساعة مقابل عشرة سنتات أو شيء من هذا القبيل.