ليس غريباً أن يقدّم المتحف الباريسي الخاص بكلود مونيه (مارموتان) المعرض الاستعادي الأول للفنانة الانطباعية أو الأنثى الوحيدة التي كانت ضمن مجموعتهم في نهاية القرن التاسع عشر، وهي برت موريزو (1841-1895)، فهو المتحف الوحيد في أوروبا الذي يملك أكبر مجموعة من ميراثها الفني، هو الذي يصل بها إلى أكثر من 25 لوحة وإلى خمسين من رسومها وعدد من المحاولات (الكروكيات) غير المكتملة، ناهيك عن الوثائق النادرة، بخاصة الحميمية منها، بما فيها الرسائل المتبادلة مع مانيه وسواه. لكن المعرض يعانق مئة وخمسين لوحة، مستعارة أغلبها من المتاحف والمجموعات الخاصة الأميركية، نوهت سابقاً إلى أن التراث الانطباعي الفرنسي انتقل بالقسم الأعظم منه إلى الولاياتالمتحدة عن طريق اقتناء لوحاته من قبل الموسرين الأميركيين، قبل محاولة جمعه من قبل المتاحف الكبرى (مثل شيكاغو والمتروبوليتان). يستمر هذا المعرض حتى تموز (يوليو). بدأت السيدة موريزو تعرض مع كوكبة الانطباعيين منذ معرضهم الأول عام 1874، إلى جانب مونيه ورنوار وديغا وبيسارو وغيرهم، وكانت على علاقة خاصة وحميمة مع رائدهم إدوار مانيه، تعرفت اليه منذ زواجها بأخيه جوزيف، ثم ارتبط اسمها به، فقد بادر الى تدريبها على التصوير الانطباعي قبل أن تستقل بأسلوبها رغم تأثرها بمنهجه، كان مانيه مسحوراً بجاذبيتها وقوة شخصيتها، هو ما صرح به في إحدى رسائله للكاتب مالارميه، محاولاً أن يجعل منها نموذجه المفضل، حتى أصبحت موديلاً لموضوعاته تقف له ساعات طويلة، عرفت هي نفسها من خلال البورتريهات التي أنجزها عن وجهها، يعلق أحد كتاب العصر وهو مالارميه نفسه، بأنه لا يمكن فصل اسم برت موريزو عن إدوار مانيه بسبب هذه اللوحات المؤثرة. أما هي، فلم تكن ترسم الذكور في لوحاتها ما عدا زوجها جوزيف مع ابنتها، كان أبطال لوحاتها على الأغلب هن بناتها، كثيراً ما تصور نفسها في المرآة مع ابنتها جولي، رسمتها مئات المرات. تأثرت بمنهج كلود مونيه من ناحية أفضلية التصوير في الهواء الطلق والمناظر الطبيعية، وتأثرت بقزحية الألوان الشفافة لرونار واستخدمت ألوان الباستيل مثل ديغا. يحاول المعرض إثبات أنها ليست فقط متميزة عن هؤلاء وعن إدوار مانيه، وإنما يمثل تصويرها المثال الانطباعي النموذجي من ناحية التسارع في التقاط حركة الضوء وكميته النورانية في تقنيات الألوان والأصبغة وحركة الشفافية في الفراشي، ثم الأرضيات ذات الخفة الهوائية والاختزال المتحرك، بل إنها مثل مونيه، كانت تنجز سلسلة من اللوحات للموضوع نفسه وللنموذج المتحول، مثل اللوحات الأربع لقطف الكرز أو «الراعية المضطجعة» في الطبيعة (نموذج ابنتها)، وكانت أحياناً ترسم النموذج الأنثوي عارياً قبل أن تصوره بالملابس التقليدية (بخاصة الريفية). واليوم يعاد تقويم أصالة موضوعاتها الطوباوية وفرشاتها الفردوسية وألوانها ذات الغبطة وقزحية الضوء المتكسر مثل أجنحة الفراشة، ثم السرعة والنزق في الإنجاز والوقوف عند محطة غير منتهية. يجدها البعض اليوم أكثر حدسية وتلقائية من زملائها ومن دون ادعاء وأقرب إلى البراءة والدهشة الطفولية وهي تسبر عاطفياً تحولات الضوء بلا مراجعة. يحمل تصويرها هشاشة الأنثى وحساسيتها الأمومية وقد يكون بشّر ببعض جوانب تيارات الحداثة التالية من «غنائية» وغيرها. تنتمي موريزو إلى عائلة برجوازية كانت تطمح لتجعل منها ومن أختيها موسيقيات أو مصورات، هو ما اتاح لها فرصة الاختلاط والتعرف على بعض معلمي ذلك العصر للتدرب، من أمثال كامي كورو وهنري لاتور. تعترف في رسائلها بأن إعجابها كان منصبّاً على جماعة الروكوكو في تلك الفترة بخاصة فاتو وبوشيه وفرغونار، وكانت تكمل تدريبها في متحف لوفر لتنقل لوحات فيروينز وتيسيان. مثل هذه الذائقة العريقة دفعت بعض النقاد المتحمسين لأسلوبها الى القول إنها الانطباعية التي تمثل صلة الوصل ومن دون انقطاع بين الانطباعية وفن القرن الثامن عشر. كانت الأنثى الوحيدة والمدلّلة ضمن المجموعة (من قبل مانيه ورنوار وديغا) ومن بعض الكتاب (مالارميه وبول فاليري). وقد يكون أيضاً السبب لتدليلها نوبات صداع الشقيقة التي كانت تنتابها كثيراً فتضعف مقاومتها. عاد هذا الدلال في المعرض اليوم مع نوع من التعصب الأنثوي ضد العنصرية الذكورية في تاريخ الفن (والتقاليد البورجوازية) وكأن قدر المبدعة الأنثى أن تعيش في ظل الأسماء الذكورية الكبيرة، أو تعمل موديلاً لهم، يقارنون تهميش دورها أمام سيطرة فن إدوار مانيه عليها بما جرى من ظلم بحق كامي كلوديل التي كانت تعمل نموذجاً لرودان أو الظلم بحق سوزان فالادون التي كان يرسمها هنري تولوز لوتريك. لكن لعل المبالغة في ردة الفعل على العنصرية الذكورية يوقع في عنصرية أنثوية من جديد، فبرت موريزو لا يرقى فنها على الارجح إلى شدة خصوصية كل من مانيه أو مونيه أو ديغا أو رنوار رغم رهافة حساسيتها، ولكنها تبقى في حدود التوليف الموهوب بين أساليب هؤلاء.