سواء أثبتت الأيام أن رياح الغضب التي تجتاح أرجاء العالم العربي ثورات حقيقية، أو ربيع كاذب، أو حتى جهد محترم يكفي لأصحابه نيل شرف المحاولة، فإن ما لا يقل عن عشرة أعراض تلفزيونية جانبية نتجت منها تستحق الإشارة بناء على التجربة المصرية. أولاً هذه ثورات (أو احتجاجات أو موجات غضب) تربطها بشاشات التلفزيون علاقة منفعة متبادلة! فهي ولدت على الشاشات التي نقلتها بينما تحدث لمواطنيها في الداخل وللعالم أجمع. وتم نقلها في شكل رومانسي عاطفي جياش جعل الجميع يحبها ويتعاطف معها. لكن الشاشات لم تقم بذلك لوجه الله، بل أعطت هذه الثورات للكثير من القنوات قبلة الحياة، وذلك بعدما كان ركود الأحوال واستمرارية الأنظمة يكادان يقتلان حيويتها ويطبقان على أنفاسها. وإذا كان التلفزيون يلعب دوراً محورياً في «الربيع» العربي، فإن ذلك لا ينبغي أن يجور على البطل الحقيقي في نقل فعاليات الثورة، بل وعوامل تفجيرها، من حيز السرية إلى العلانية، ألا وهو أدوات الشبكة العنكبوتية. هذه الأدوات هي التي مهدت لاشتعال الغضب، وذلك بفضح ممارسات الأنظمة. ثم نقلت أحداث الغضب في وقت حاولت الأنظمة فصل التيار المعلوماتي عن الشعب حماية لها، وهي التي تنظم الفعاليات، وتحشد الثوار، وتؤجج المشاعر. وإذا كانت الانطلاقة الشعبية الأولى من المشاعر المؤججة غالباً تتسم بتوحدها ونسيان أو تناسي الفروق الأيدولوجية والانقسامات الدينية والسياسية والاجتماعية، فإن المراحل التالية تسلط الأضواء على الفروق والاختلافات على حساب وحدة الصف، وهو ما يتضح بوضوح بالغ في مراحل الثورات المختلفة حين ينتهي الثوار من خلع الأنظمة، ثم يفاجأون بأن مرحلة توزيع القوى والسلطات تحتم بزوغ المصالح وسطوع نجم الاختلافات. وتكفي جولة على سلسلة القنوات المصرية لكشف هذا الطيف الشديد التباين، وإن كان الجميع يتفق على هدف واحد ألا وهو الاستحواذ على السلطة. وتكشف هذه الجولة كذلك عن نتيجة أخرى من نتائج الثورات، ألا وهي تنجيم الثوار الذين انتقل الكثيرون منهم من صفوف المتظاهرين والمعتصمين إلى مقاعد المذيعين والمقدمين التلفزيونيين. هذه الظاهرة أشبه بتنجيم ملكات الجمال عقب فوزهن باللقب بتخصيص برنامج لنجوميتهن قصير العمر لعام أو نحوه، وسرعان ما يتم استبدالهن بموارد بشرية أخرى تضمن نسب مشاهدة، ومن ثم ريعاً إعلانياً. وسواء كان تنجيم الثوار «بيزنيس» يحقق عائداً لصاحب قناة، أو مصلحة شخصية للثائر المذيع تهدف إلى نشر «الفكر الثوري»، أو إشباع شهوة الظهور الإعلامي، أو تحقيق دخل مادي لم يكن يحلم به في زمن ما قبل الثورة، فإن هذا الكرنفال التلفزيوني غير المسبوق يقدم للمشاهد المسكين وليمة ضخمة من الاتجاهات ليس عليه سوى أن يختار منها ما يتواءم مع ميوله. ولكن المؤسف ان هذه الثورات نتج منها المزيد من الانغلاق على الأخبار الداخلية، وتقلص الاهتمام تماماً بالبرامج وفقرات الأخبار التي تغطي شؤوناً عربية أو عالمية نظراً لتخمة الأحداث داخل الوطن، بحيث يبدو أن زمن «سي إن إن» وقريناتها قد ولى.