اعتاد الروائيون العرب أن يكتبوا عن السجون العربية التي بنتها الأنظمة العسكرية والديكتاتورية، عطفاً على السجون الإسرائيلية التي ما زال الفلسطينيون يعانون منها. الكاتب العراقي عبدالجبار ناصر كتب رواية عن السجون الإيرانية التي رزح فيها ثمانية أعوام تحت العذاب والذل والقسوة. لن ينفع البحث عن خيط الحكاية، عقدتها، مراحل نموها في هذا الكتاب الذي كنت أنتظره منذ أكثر من عشرين سنة. «كتابة على التراب» الصادر حديثاً عن الهيئة المصرية العامة للكتاب رواية الكاتب عبدالجبار ناصر (عراقي مقيم في أستراليا)، ليست مجرد رواية، بل سيرة ذاتية، تجرى وقائعها في منطقة، فضاؤها القسوة العابثة والعدم والرجاء الذي يشبه نفاده، بحيث قضى الكاتب أكثر من ثماني سنوات أسير حرب في السجون الإيرانية ما بين عامي 1982 و1988. تقنياً ينطوي هذا الكتاب على ضنى في تجربة الكتابة هو انعكاس لذلك الضنى الذي تميزت به تجربة الحياة في معسكرات الأسر بكل أهوالها التي تخرج عن نطاق الوصف. في كل سطر منه هناك شيء من السؤال الوجودي العظيم: «لمَ يحدث كل هذا لي، في وقت تبدو البشرية لاهية بعيداً عني؟» ما من أي منطق في إمكانه أن يفسر الحلقات التي اتخذتها دورة حياة الكاتب، بدءاً بالتحاقه القسري بصفوف الجيش الشعبي، لكونه مدنياً اقتيد بالقوة إلى جبهات القتال عام 1982 وانتهاءً بأسره في السنة نفسها، لتبدأ فصول محنته التي تذكرنا بكبريات المحن في تاريخ القسوة البشرية. مزيج من اللامعقول والفوضى والعبث والمجانية والرغبة الفائضة في الانتقام، صنع مصائر بشر، الكاتب واحد منهم، وجدوا أنفسهم في لحظة قلقة وحرجة مرميين في الهامش البشري، مسلوبي الحرية من غير أن يرتكبوا ذنباً أوخطيئة. كانوا رهائن في لعبة، ليست مساراتها واضحة ولا الأهداف منها دقيقة. يقول الكاتب: «النوم العميق في توابيت الأسر الجماعية نعمة عظيمة. فالنوم هنا ليس موتاً موقتاً تُخطف الروح فيه ثم تُعاد، وإنما هو الفسحة الوحيدة التي تعيد الأسرى إلى الحياة إن لم يكن هو الحياة الوحيدة التي يعرفونها في هذه الأقبية أو القبور، ففي النوم ينعمون بالحرية، يسبون ويشتمون ويتحدون ويلعنون، ينطلقون في فضاء مفتوح لا متناهٍ، يأكلون ما لذ وطاب وإن كانوا لا يشبعون، يحضنون حبيباتهم وأطفالهم ويبكون على صدور أمهاتهم وهم يحدثوهن عن زمن صعب اجتازوه بمعجزة. في النوم يطلق الأسرى لغرائزهم العنان». الوصف المؤلم في هذه الحالة يبدو الوصف مؤلماً. ما من وصف محايد. كل نوع من الألم يتخذ صورة لا تكرر الصور التي تقترحها الأنواع الأخرى التي عاناها الكاتب: الجوع، العري، الحرمان، الإذلال، القسر، التهديد بالقتل في أية لحظة، التعذيب، الحجز ومصادرة الحرية القليلة، المرض من غير علاج أو دواء والاضطرار إلى أداء واجبات عبثية بالإكراه أو إجباره على قول ما لا يؤمن به. وإذا كان عبدالجبار ناصر نجح في رص وقائع الأسر في قالب روائي فإن الحكايات، ولكل أسير من رفقته المقربين حكاية، لكل قطعة من ذلك الليل حكاية، كانت تزيح عن كتفها عبء الانتماء إلى سرد روائي بعينه لتقف وحدها، مكتفية بذاتها في إشارة إلى مصير إنساني يأبى الذوبان في الوضع القطيعي. كان الكاتب (الأسير) مضطراً، بسبب ضيق المكان وعبثية الوقت إلى تأمل الحكاية البشرية كلها، حكاية كل إنسان وكأنها لا تقع إلا مرة واحدة. يروي الكاتب أحاديث أصحابه وهم في حالة من التخلي والتسامي والذهول، كما لو أنهم عبروا لحظة القيامة، ولم يعد هنالك من شيء في انتظارهم. قوة الاعتراف تضيق الخناق على الكذب بأثيريتها وخيلائها. يقول غالي، وهو أحد الأسرى مخاطباً الضابط الإيراني: «أغا. الغناء بالنسبة لي مثل الهواء والماء، أتنفس بالغناء. يمكنني الصبر على الماء والطعام، ولكنني لا أصبر طويلاً على الحرمان من الغناء». ولأن الغناء كان حراماً من وجهة نظر آسريه، فكان على غالي أن يواجه الموت بعمق وصدق سريرة. حين عوقب الكاتب بسبب دفتر صغير عثر عليه الحراس تحت مخدته، صار يؤلف روايته شفهياً، يقلب صفحاتها كل ليلة ليستعيد جملها ويصحح بعض كلماتها، وكانت أجفانه تعينه على القيام بتلك المهمة. يتذكر ما كتبه شفهياً في الليلة الماضية ليبدأ من السطر الأخير. كانت تلك وسيلته إلى النوم، هناك حيث تبدأ حياته الحقيقية، خفية مثلما هو، مثلما كان في حياته الطبيعية. يستعيد اللحظات التي كان في إمكانه أن يندم ويعتذر ويشكر ويؤجل ويفكر ويعترض ويخطط لمستقبل قد لا يعيشه. لن يضطرب القارئ وهو يرى الأزمنة تتداخل. كان الكاتب يروي أحلام يقظته للمقربين منه. يوماً ما سينتهي الكابوس. لا يرغب في أن يكون عرافاً. لذلك، استعان بالأحلام. أحلامه التي هي الجزء المتبقي من ثقة الكاتب بأدواته. حياة معزولة لم يخن الوصف الكاتب، كان عونه في الوصول إلى المعلومة بدقة، إلى التماس بحقيقة ما عاشه من وقائع، غير أنني أجد صعوبة في اختزال هذا الكتاب من خلال معلوماته الغزيرة. فما من حدث ليُروى. هناك حياة وقد عزلت في فضاء ناشف. هناك الصمت الذي هو أشبه بالحجارة من جهة تماسكه. وهناك التأملات في مفهوم الحرية. لذلك، فإن كلمة رواية التي ظهرت على غلاف الكتاب لا تعبر عن مضمونه، بل إن عنوان الكتاب نفسه قد خذل ذلك المضمون. لم يعبر الكتاب عن تجربة الأسر بل عن خبرته. كان الكاتب عميقاً في استجلاء البعد الإنساني في كل ما يقع من حوله، بدءاً من تجربة الحرب الخاسرة التي استغرقت ربع الكتاب وانتهاءً بالتماهي مع فكرة أن يكون المرء أسيراً إلى الأبد. أية كتابة وأي تراب؟ لقد وضع عبدالجبار ناصر بين أيدينا مادة تصلح لحوار سماوي. حوار يتجاوز القيم السياسية والثقافية والاجتماعية المكرسة. ذلك لأنه يحضنا على المثول أمام مسؤولياتنا الإنسانية الكبرى. ينبغي أن لا يتكرر ما حدث؟ غير أن عنوان الكتاب وهو مستلهم من مثل شعبي إيراني يقول: «الذاكرة الجيدة لا تنسى شيئاً سوى الجراح. فانقش العطف على الرخام واكتب الجرح على التراب»، إنما يدعونا إلى تبني مفهوم التسامح. بعد كل هذا العذاب تستحق الحياة أن تعاش بقلب مفتوح. ولعل كتاباً يصدر بالعربية، وهو فريد من نوعه، يعيدنا إلى التفكير بواجباتنا الإنسانية إزاء المنسيين من أبنائنا، أولئك البشر الذين ذهبوا إلى الهامش في لحظة حمق خرافية، إنما يستحق أن نحتفي به لنعتذر. إن تجربة الأسر التي مر بها عبدالجبار ناصر هي صناعة بشرية محصورة بزمان ومكان محددين، غير أن الكاتب نجح في أن يهبها طابعاً مطلقاً. يمكن أن تكون أسيراً في أية لحظة، يمكن أن تفقد حريتك بصرف النظر عن المكان الذي تكون فيه. كان الكاتب أسيراً ليس لأنه عبدالجبار ناصر، بل لأنه الإنسان الذي صار رهينة لعبة مجهولة الأبعاد.