بعد نتائج انتخابات مجلس الشعب ومجلس الشورى، في مصر، فإن وصول مرشح إسلامي إلى رئاسة الجمهورية عبر صناديق الاقتراع، وفي أول انتخابات من نوعها في أرض الكنانة، هو احتمال جدي. الناخبون وحدهم هم من يختارون رئيسهم. على أن المرء غير المصري، لا ينقصه الفضول والانشغال بهذا الحدث المرتقب، الذي ينعكس بداهة على عموم المنطقة والإقليم، وربما الأهم من ذلك على صورة مصر عبر تاريخ مديد، ثم صورة العرب أمام أنفسهم. يفصلنا نحو شهرين على الاستحقاق الانتخابي. ثمة خمسة مرشحين إسلاميين هم: عبدالمنعم أبو الفتوح، محمد سليم العوا، حازم أبو إسماعيل، مجدي أحمد حسين وخيرت الشاطر. الأخير هو المرشح الرسمي لجماعة الإخوان المسلمين وذراعها الحزبي حزب الحرية والعدالة. أبو إسماعيل مرشح التيار السلفي. وكانت الجماعة تعهدت بعدم تقديم مرشح لها، لكنها عادت عن تعهدها «من أجل وضع الأمور في نصابها». يتندر مصريون بأن الفرق الصوفية والتيار الشيعي الناشئ، هما الطرفان الإسلاميان اللذان لم يتقدما بعد بمرشح لكل منهما. وبعيداً عن التندر فقد بات جلياً أن المعركة تدور بين الحالة الإسلامية، ومرشحي التيارات العلمانية والليبرالية واليسارية والوطنية. التيارات الأخيرة بدأت حملة عنوانها: منع تيار منفرد من الإمساك بمؤسسات الدولة، ومفاصل الحياة العامة. وهو عنوان مُغرٍ ويجد سنداً له في الواقع. ففي تونس وبعد اكتساح حزب النهضة للانتخابات فقد تم التوافق مع القوى المنافسة، على تقاسم مراكز رئاسة الدولة ورئاسة مجلس النواب ورئاسة الحكومة بين التيارات الثلاثة الأولى، فذهبت رئاسة الجمهورية للمنصف المرزوقي (حزب المؤتمر من أجل الجمهورية)، ورئاسة النواب إلى مصطفى بن جعفر (حزب التكتل من أجل الحريات)، ورئاسة الحكومة لحمادي الجبالي من النهضة. بما يتجاوز الحديث عن خصوصيات كل بلد، فإن المنطق السياسي والوطني الحاكم أن العهد الثوري الناشئ وإرساء جمهورية جديدة، لا بد أن يمثل سائر مكونات المجتمع ويصون التعددية الثقافية والاجتماعية من أجل الجمع بين التغيير والاستمرار. تشكيل لجنة إعداد الدستور المصري جاء امتحاناً للإخوان ويصعب القول إنهم قد نجحوا فيه، فقد احتلوا مع السلفيين غالبية مقاعد نصف أعضاء اللجنة (وهي الحصة المقررة لمجلسي الشعب والشورى)، وهو ما حمل بقية ممثلي الأحزاب على الانسحاب من اللجنة، وتبع ذلك استقالة ممثلي المحكمة الدستورية، فممثلي الأزهر والبطريركية القبطية. في هذا الظرف بالذات أواخر آذار (مارس) 2012 جاء إعلان جماعة الإخوان عن ترشيح نائب مرشد الجماعة المهندس خيرت الشاطر (60 سنة) لانتخابات الرئاسة، في خطوة تتسم بالتحدي السافر. ولئن كان من الصحيح أن التحدي هو سمة كل انتخابات، إلا أن الفيصل هو في مضمون هذه السمة. فالتحدي الجاري من طرف الجماعة الإسلامية المتصدرة، يكمن في السعي لاختزال المكونات «القومية»: الأفريقية والعربية والقبطية والمتوسطية والإسلامية إلى المكون الأخير وحده. تبعاً لذلك هناك خشية داهمة من الانتقال من نظام الحزب الواحد الحاكم، إلى حكم رجال دين ذوي تأهيل تكنوقراطي، يضعون تقواهم الشخصية عنواناً لجدارتهم الوطنية، ولا يقيمون وزناً للمواطنة أو لخصوصية مصر وشعبها، ولا لعلاقتها مع العالم الخارجي. ذلك سوف يتسبب بصدوعات عميقة، ليس أقلها ازدياد الاستقطاب الديني وتقسيم المواطنين بين مسلمين وأقباط وعلمانيين، بل تقسيم المسلمين بين ملتزمين وغير ملتزمين، وبعدئذ تقسيم الملتزمين بين من يلتزمون أداء العبادات فقط، ومن هم منخرطون في الجماعة ومناصرين لها، والنظر إلى السياحة على أنها سياحة مسلمين وغير مسلمين إلى مصر. والاستهانة بالثقافة والفنون وترويج مفاهيم في هذا المجال مثل الحرية الملتزمة، ويعرف عن جماعة الإخوان ازورارها عن الإبداع الثقافي والفني وتبخيسها لقيمته، منذ سابقة سيد قطب في أوائل خمسينات القرن العشرين، والانضمام لجماعة العقاد وكتابته عن نجيب محفوظ. (في الأخبار الأخيرة أن المناخ الجديد دفع نحو فرض الرقابة على أشرطة سينمائية قديمة منها، الفيلم الغنائي الذي أدى بطولته عبدالحليم حافظ «أبي فوق الشجرة» الذي عرض مئات المرات في مصر، منذ إنتاجه في أوخر ستينات القرن الماضي. إنها الرقابة بأثر رجعي: العبث بالتاريخ، وهي أسوأ من الرقابة على المنتجات الفنية الجديدة). يراهن الإخوان بين ما يراهنون عليه إضافة إلى نفوذهم في البيئات الفقيرة والمحافظة جنباً إلى جنب مع نفوذهم في دائرة رجال الأعمال والمؤسسات الاقتصادية الإسلامية، إلى تفهم الغرب خصوصاً أميركا لصعودهم، وقد أرسلوا إشارات عدة تفيد باحترامهم لاتفاقية كامب ديفيد، والى اعتدالهم مقارنة بتشدد التيار السلفي وحتى افتراقهم عن هذا التيار، بدليل أن كلاً منهم شكل حزبه الخاص (السلفيون شكلوا حزب النور). غير أن الحملة الانتخابية التي تمت المباشرة بها سوف تكشف المستور، فهذه المناسبة لا تسمح بتظهير الفروق، بل هي فرصة لإطلاق التعهدات، وإعلاء شأن المشتركات بين الجماعة والتيار، بما يعكس واقع الحال وما يمثل جذباً لجموع الناخبين. يحرص مرشحون إسلاميون على نثر تطمينات، ولعل بعضاً من هذه التطمينات لا يُجانبه الصدق. المشكلة أبعد من التطمينات، وتكمن في البيئة الفكرية وفي مناخ المعتقدات المرشح للشيوع، الذي يجعل من مظاهر التعددية الثقافية والاجتماعية وهي من أخصّ خصوصيات مصر والمصريين، مِنّة وتفضّلاً ممن يعتنقون نهجاً أقرب إلى الشمولية. في تونس وعلى رغم البادرة الحميدة التي أقدم عيها حزب النهضة بإيكال قيادة مؤسسات الدولة إلى تيارات ثلاثة، فإن صعود الإسلاميين سرعان ما أطلق مناخاً من التشدد يلامس تهديد الأمن الاجتماعي ومصادرة الحريات وترهيب المختلفين. السلطات هناك لم تقف مكتوفة الأيدي، لكنها في الوقت ذاته لم تبادر إلى إعمال القانون بحق المخالفين، وسعت إلى أداء دور الوسيط بين مؤسسات أكاديمية وثقافية، وبين من يسعون إلى أسلمة هذه المؤسسات. هذا السلوك يجافي تعهدات «النهضة» ويرسل إشارة إلى أن الوئام بين العلمانيين والإسلاميين في المستوى الأعلى من هرم السلطة، ليس قابلاً بالضرورة للانتقال إلى الشارع عبر تطبيق القوانين. السر في ذلك لا يعود إلى ازدواجية الموقف والخطاب أو إلى «الباطنية»، بل يكمن في كون حزب النهضة لا يسعْهُ «أدبياً..!» معاقبة ناخبيه، ولن يجازف بخسارة أصوات هؤلاء في انتخابات محلية أو نيابية أو نقابية لاحقة. هذا الأمر مُرشح للحدوث في مصر إذا ما فاز إسلامي. فالرئيس الفائز لن يقطع صلته مع بيئته الأولى التي دفعته إلى تسنم أعلى المراكز. وصفته الحزبية وثقافتها، هي التي تشكل رؤيته ومعاييره التي نشأ عليها (انضوى خيرت الشاطر مثلاً في الجماعة منذ 38 عاماً، أي سواد حياته كلها منذ تخرجه مهندساً من الجامعة). هناك إسلاميون آخرون أبرزهم عبدالمنعم أبو الفتوح، وهو بدوره إخواني المعتقد فصلته الجماعة لمخالفته تعهدها بعدم خوض الترشح للانتخابات. وهناك الأكاديمي عضو اتحاد علماء المسلمين محمد سليم العوا، وكلاهما يتطيّر من تفتيت الصوت الإسلامي بعد ترشح الشاطر. لقد تم تقسيم أصوات الناخبين في وقت مبكر إلى إسلامي وغير إسلامي، وعلى الخصوص المسيحي. ثم مجدي أحمد حسين الإسلامي المنفتح، الذي أمضى سنواته الأخيرة في السجن، وقد انتقلت إليه قيادة حزب العمل المحظور من شقيقه الراحل عادل حسين، الذي انتقل بدوره من تيار اليسار إلى صفوف التيار الإسلامي. وفرصته في الانتخابات ضعيفة. يصف المصريون بلدهم ذات الحروف الثلاثة بأنها «أم الدنيا»... الدنيا الشاسعة بما هي عليه من تنوع وتعدد وما تزخر به من إبداع، وأم كل المصريين. وبهذا فلا هوية دينية أحادية غالبة عليها، ومحاولة قسر هذه الهوية عليها، هو دفعٌ لإخراجها من مسارها التاريخي والحضاري. * كاتب من الأردن