من 22 آذار (مارس) حتى 3 نيسان (أبريل)، أقيم في مركز جورج بومبيدو في باريس كما في دور أخرى للعرض، المهرجان الدولي لسينما الواقع. وهو موعد سنوي لا يمكن إغفاله للسينما الوثائقية. تضمن المهرجان أربع مسابقات دولية للعمل الأول وللفيلم القصير ولاكتشاف الوثائقي ومسابقة للفيلم الفرنسي. وتوزعت سبع جوائز مالية تتراوح ما بين الألفين وخمسمائة والعشرة آلاف يورو. ونظمت خلال المهرجان أيام عمل ومناقشات وندوات مع سينمائيين، وعلى سبيل المثال نظمت هذا العام ندوة حول توزيع الفيلم الوثائقي والمجالات المفتوحة أمامه، هل هي دور العرض؟ أم ثمة أمكنة بديلة أو الاثنان معاً إذ إن أحدهما يكمل الآخر. من الأفلام الفائزة في هذه الدورة فيلم «ليلة مغبرة» للأفغاني علي حزري عن كناسي الشوارع في كابول، وكذلك فيلم «خمس كاميرات محطمة» للمخرجين عماد بورنات وغي دافيدي وهو من إنتاج فلسطيني - فرنسي - إسرائيلي يتناول جدار الفصل. وضمن إطار المهرجان أقيمت أمسية مهداة إلى مؤلفين سينمائيين، معروفين أم مجهولين، محاصرين في إقامة جبرية، ممنوعين من المقاومة، لكن صورهم وأفلامهم تدور العالم، تتحدى القمع والعوائق التي تقف أمام الخلق... فمن أفضل من يمثل هؤلاء هذا العام؟ للإجابة على هذا السؤال كرس المهرجان الأمسية إلى سورية. إنه قسم جديد في المهرجان قرر افتتاحه في نسخته الرابعة والثلاثين، ربما بتأثير الثورات العربية... أو لعل تلك الثورات كانت السبب المباشر الذي دفع بفكرة قديمة إلى البروز، إنه هنا الآن «لينقل الحدث السياسي من إيران إلى الصين ومن سورية إلى التيبت»، ليخصص فضاءً لصور وأفلام سينمائيين، ليتمكن وبانتظام من إعطاء أخبار عن هذه السينما المحاصرة «الممنوعة من المقاومة»، عن هؤلاء الفنانين أو المتظاهرين المسلحين فقط بهواتف نقالة والذين يحاولون نقل الحدث السياسي على رغم القتل والاعتقال والمنع. صف طويل من الفرنسيين امتد في ردهة مركز بومبيدو، حضر ليشهد ما يحدث في سورية... طويل لدرجة أن الصالة لم تتسع للمنتظرين، فعاد بعضهم خائباً. واستقر «سعيدو الحظ» في أماكنهم، هل كانوا حقاً سعيدي الحظ وهم يشهدون ما شهدوا؟ لم نر وجوهاً كثيرة ولم نقرأ أسماء، كانت الأفلام من دون أسماء، أصحابها جنود مجهولون مهددون بالموت اختاروا توثيق الحقيقة، كأنها وسيلتهم الوحيدة ليتمكنوا من العيش في مدن تحترق، ترتمي فيها أجساد فارقتها الحياة، «السينما تخرج من دواخلنا، تجعلنا نولد من جديد» يقول أحد صانعي هذه الشرائط في شهادة له قرئت من قبل الناشطة والسينمائية السورية هالة العبدالله. إن حملهم الكاميرا هو حكم بالإعدام، ولكن ليس بسبب هذا يخفون أسماءهم بل لأنه ليس مهماً من صنع الفيلم، ولا حماية حقوق المؤلف، فالفيلم هنا «هو الذي يحمي حق مؤلفه في أن يكون إنساناً». الفيلم جاء من أجل البلد والبلد لا غير. يقولون إن أفلامهم تكرّم الأماكن، «نافذة صغيرة» عليها، وعلى هؤلاء الناس وجحيمهم اليومي. «حماة 82» توجت العرض. حماة الأمس واليوم. من أمسها تبدو أغصان خضراء تهزها الريح وعبرها تتراءى مقابر ومقابر... تحكي شاهدة أخفت وجهها عن «فرق الموت» عن أيام «كيوم القيامة»، ويتنفس شهود اليوم بعد حديث عن مشاعرهم، أنفاسهم «المكتومة أربعين سنة»، يصرخون بصوت عال لا يخيفه ولا يخفيه هدير القصف «ما منحبك». أما «طريق القوافل» فكان لبلدة تلبيسة، في محافظة حمص، يؤرخ لحركة الانتفاضة فيها، لخروج أول من جاء من أهلها ليتضامنوا مع أهل درعا، ليطالبوا «بالكرامة وليس بالمناصب»، أحسوا بما لم يكونوا على دراية به، بكل ما تثيره «التظاهرة» من أحاسيس جديدة، كانوا معتادين على «المسيرة»، مسيرات التأييد فقط «التي توزع فيها السندويتشات للمؤيدين»، وحين انهمر الرصاص عليهم فإنه «لم يكسر قلوبهم بل كسر حاجز الخوف». أضيفت لهم تهمة جديدة، «حفر قبور الشهداء»، يتحدثون ويسردون ويترحّمون على قانون الطوارئ الذي «ألغي»، ويفكرون بأبنائهم «هذا من أجل ابني» ليحيا حياة أفضل من تلك التي عشتها. الفيلم الثالث حضر مع مخرجه، هو فيلم لم ينته بعد وفي طور التوليف، نضال حسن الذي اعتقلته السلطات السورية نهاية العام الماضي لأسباب عدة منها نشره «أخباراً كاذبة من شأنها أن توهن نفسية الأمة» كما ذكر الادعاء، أفرج عنه فيما بعد. وها هو في باريس، قدم للجمهور فيلمه الذي كان بدأه في الدنمارك بعد أن حصل على منحة فيها. فيلم عن الحب والحياة والموت والثورة تنقل فيه بين كوبنهاغن ودمشق والسويداء ليحكي مصائر نساء سوريات، بعضهن رحن ضحية جرائم الشرف وأخريات حلمن بالتغيير فكان الاعتقال نصيبهن. الفيلم الذي كان على حسن أن يبدأه يوم 16 آذار (مارس) من العام الفائت، فجر الانتفاضة السورية احتوى على مشاهد لاحتجاجات في دمشق، لضرب تعرض له متظاهرون، نقل توتر الأيام الأولى وارتباكها... أفلام تسجل التاريخ بطريقتها، تكتفي أحياناً بالتعبير البصري كأفضل شاهد على الحدث، وأحياناً أخرى حين تفتقد الصورة (فيلم حماة) تقدم شهادات لمعاصرين للحدث... يحكون ويحكون وكأنهم اكتشفوا الكلام.