كنت في مؤتمر نصيبي منه جلسة عن القيود على حرية الميديا العربية، وقام مستمع تحدث عن حصار إسرائيل قطاع غزة، وكنت في مؤتمر آخر موضوعه العوائق أمام الوحدة الثقافية العربية، وقرر مستمع أن تكون مداخلته عن النظام السوري: بت مقتنعاً بأن المواطن العربي لا يصغي إلى حوار تلفزيوني ولا يحضر ندوة في مؤتمر ليسمع أو يستفيد ويسأل ويستفيد أكثر، وإنما هو على الهاتف أو في القاعة لتقديم مداخلة إن قصرت فنصف ساعة، وإن طالت فهي أطول من المحاضرة التي لم يسمعها. لا يعني هذا أن كل مشارك في حوار تلفزيوني وكل محاضر في ندوة خطيب مصقع من جهابذة الكلمة (المعنى في القاموس أو في قول الشاعر: خطباء حين يقوم قائلنا/ بيض الوجوه مصاقِعٌ لُسُن) وإنما أننا نسمع بين حين وآخر أفكاراً جديدة واقتراحات مفيدة من عالم نِحرير في موضوع اختصاصه خبير قدير، ثم يأتي صاحب مداخلة يفسد الجلسة على الجميع. أعتقد أنني لو عشت عمر لبد، نسر لقمان الذي قرأنا أنه عاش ألف سنة، لما سمعت أحداً يسأل سؤالاً، وإنما يقدم مداخلة أهم ما فيها أن لا علاقة لها البتة بالموضوع. طبعاً، هناك متحدثون يستحقون «المداخلة» إياها، وأسمع الواحد من هؤلاء وأنا أقول مع الشاعر: خطبت فكنت خطباً لا خطيباً/ يضاف إلى حوادثنا العظام. والحوادث هنا ليست المجلة المعروفة، وإنما بمعنى المصائب لذلك قال شاعر آخر: إن الحوادث ما علمت عظيمة/ وأراك بعض حوادث الأيام. أقصى ما أدعي شعراً أنني طالب أدب لا صحافة، وأنني أحفظ الكثير منه، وأحاول أن أقلده بعد أن شجعتني الإخوانيات التي تبادلتها مع الصديق الحبيب غازي القصيبي، رحمه الله. مما أحفظ قول الشاعر: مما يزهدني في أرض أندلس أسماء مقتدر فيها ومعتمد أسماء مملكة في غير موضعها كالهر يحكي انتفاخاً صورة الأسد وقلدت السابق، أو هو أوحى لي باللاحق: مما يزهدني في خوض معترك بالفكر والذكر والتنوير مصقول إن ابتلى بدخيل في مداخلة بالجهل والنقل والإسفاف مجبول أقول إن شعري لا يقدر عليه المتنبي، ثم أحمد الله أن هذا الشاعر العظيم توفي منذ ألف سنة، ولن يستطيع أن يرد على تطاولي بهجائي كما فعل مع السامري في مجلس سيف الدولة، فقال: أسامري ضحكة كل راء فطنت وكنت أغبى الأغبياء صغُرت عن المديح فقلت أُهجي كأنك ما صغرت عن الهجاء أعود إلى المداخلة، وأقول للقراء: «دخيلكم فكروا في حل ينقذنا جميعاً من أصحابها، فكلنا يتابع التلفزيون وبعضنا صاحب همة عالية ليتجشّم عناء النهوض من على «كنبة» أمام التلفزيون في البيت، والانتقال إلى مركز ثقافي لسماع محاضرة قيّمة». لو كنا في زمن المتنبي، لاقترحت أن يوضع صاحب المداخلة مقيداً على ظهر حمار، ووجهه إلى خلف، ويطوف به العسس في أحياء المدينة (لن أقول زنقة زنقة) وأمامه ضارب دف يهتف: تعالوا يا أهل الدار تعالولي كبار وصغار شوفو آخر عجيبة حمار راكب على حمار أسوأ من حمار أن يكون الواحد «حمار ومدّعي» كما تقول العبارة العامية، والمشكلة في مناقشة أي غبي هي أن الذكي الذي يناقشه لا يرفعه إلى مستواه من الذكاء، بل يهبط هو إلى مستوى الغبي من الغباء. في مثل هذا الوضع يقول المصريون: ما تدقّش يا بيه. ويقول اللبنانيون: مشّيها بتمشي، وأقول أنا: وقانا الله جميعاً من المداخلات فالعمر أقصر من أن نضيعه مع أصحابها. [email protected]