يريد البعض في مصر الآن ان يعود الى التراث السينمائي المصري العريق كي يمارس الرقابة والمنع على العديد من أفلامه، وذلك تحديداً تبعاً لقواعد وأعراف تبدو منتمية الى عصور مغرقة في القدم، اين منها عصور محاكم التفتيش البائسة. ومعنى هذا ان التحرّك الظلامي الكئيب الذي كانت «محاكمة» عادل إمام واحدة من أولى إشاراته، يتواصل في معركة دونكيشوتية مع الفن، وربما الأدب تباعاً وربما الفكر وكلّ ما هو رائع ومضيء انتجته عبقرية مصر ومبدعيها على مدى العصور. وفي سياق هذه المعركة التي تخوضها العتمة ضد النور والجهل ضد الإشراق والتخلف ضد التقدم، وبالتالي عبيد الماضي ضد بناة الحاضر والمستقبل، لن نعدم غداً من يمحّص في اغاني ام كلثوم وموسيقى عبدالوهاب وعواطف عبدالحليم وفايزة وعبدالمطلب، كما في حروف نجيب محفوظ ولمعات طه حسين وحوارات توفيق الحكيم... ونكتفي بهذه الأسماء التي نعرف انها من بين عشرات للمتخلّفين عليها الف ثأر وثأر. في اختصار، ما يحاربه اعداء النور هنا من سارقي ثورات الشعوب، هو روح مصر نفسها وكلّ احتفال في تاريخها بألق الحياة.. طالما اننا نعرف ان المعركة هي اساساً، وكما في كلّ مكان من عالمنا العربي اليوم، هي معركة بين ثقافة الموت وثقافة الحياة، بين الكآبة والفرح، وبين الإنسان وأعداء الإنسان. والمؤسف في هذا كله ان ديكتاتورية العدد القائمة حالياً، بديلاً من الربيع العربي الذي بات موؤوداً، تعطي المرء انطباعاً بأن الحياة والنور والمستقبل، قد تكون في الموقف الأضعف، ما قد يسفر عن غيبوبة لكلّ الأشياء الجميلة التي أحببنا ونحبّ. غير ان هذا ليس صحيحاً... لأن ثمة في الأفق معارك طويلة لا بد من خوضها... معارك جديرة بأن تخاض، ليس دفاعاً عن الفنون والآداب المعرّضة للخطر، بل دفاعاً عن الحياة نفسها. وفي مثل هذه المعارك، لا بد من الإشارة هنا، الى ان التلفزة – أجل التلفزة..وياللغرابة (!) - قادرة على ان تلعب الدور الأساس. فإذا كان من المنطقي القول ان فنوناً ترسخت في وعي مئات الملايين وصنعت جزءاً اساسياً من هذا الوعي، لن يكون في امكان أية محكمة تفتيش ان تمحوها، لا بد من القول ايضاً، ان التلفزة يمكنها بدورها ان ترفد تلك الذاكرة الجماعية بما يمكنها هي ان تحافظ عليه: فالأفلام والأغنيات وتاريخ الآداب والحوارات مع المبدعين والمسرحيات والعشرات من ضروب الإبداع الأخرى، كما انها موجودة في الذاكرة الجماعية للناس، توجد ايضا في عهدة المحطات التلفزيونية، فإذا تمكن انصار الظلام من ابتزاز بعضها وإغراء بعضها الآخر وتخويف البعض الثالث، ستظل هناك اعمال ونسخ من اعمال جاهزة للعرض رغم انف عبيد الماضي... وسيظل هناك دائماً محبّون للحياة ومحبّون للإبداع قادرون على مدّ من يشاء بأية اعمال في اصولها... وفي هذا يظلّ في امكاننا ان نطمئن إذ نتذكر ان ذاكرة التلفزة، كما ذاكرة الناس هي خير حصن للوقاية مما بتنا موعودين به!