مضى رمضان التلفزيوني سريعاً كعادته، محملاً بالخير الكثير كما اعتاد، وبالدراما، ما لذ منها وما لم يطب، محشواً بلقاءات النجوم والنجمات في برامج كانت حتى الأمس القريب لا تحمل إلا السياسة وشرورها وباتت في الشهر الكريم لا تحمل إلا هذا النجم وذكرياته مع المسلسل «الرائع» الذي يقوم ببطولته، أو هذه النجمة والمسلسل «الظاهرة» الذي يتحدث عنه الكل بانبهار وإعجاب. كما مضى الشهر الكريم بعرضه الجانبي وشرّ برامج المقالب وحلقات الإثارة والشغب والكاميرا الخفية التي كَلَّ منها العباد وملّوا لكنّ لا حياة لمن تنادي! أما البرامج السياسية الحوارية ذات النكهة الرمضانية حيث «تشويق» الشخصيات الجدلية و «أكشن» الأسئلة اللولبية، فقد خفت نجمها هذا العام وبارت سلعتها ربما لأن أرض الواقع جاءت محمّلة ب «أكشن» من دون افتعال و «تشويق» على الهواء مباشرة. مباشرة المشاهدة التلفزيونية الشعبية شابتها شوائب وعانت قليلاً من انتقاص في النصف الأول من الشهر الكريم، وذلك بحكم مونديال كرة القدم الذي قسم البيوت فئات وكلف المقاهي «شيء وشويات» حيث ضرورة الاشتراك في خدمة بث المباريات، ومن ثم فرض «حد أدنى للطلبات»، وإن وجب الاعتراف بأن تقويم أداء «راقصي التانغو» على مذاق «الكركدية» و «التمر هندي» وفواصل إعلانية لا تخلو من «رمضان جانا» و «وحوي ياوحوي» أضفى على المونديال أجواء رمضانية عوضت اعتكاف الدول العربية – باستثناء الجزائر - عن الحدث الكروي الأهم عالمياً. متابعة المستحيل الملاحظة الأهم هذا العام هي أن كثراً تأكدوا من أن متابعة الغالبية العظمى من مسلسلات رمضان هو المستحيل بعينه، وذلك نظراً لاقتصار اليوم على 24 ساعة فقط، بعضها مخصص للنوم – ولا نقول العمل - ما يعني أن جانباً من المخزون الرمضاني الدرامي تم ترحيله طواعية إلى المتابعة في الإعادة بعد نهاية رمضان. الحنكة الشعبية المكتسبة في تنظيم وتخطيط ساعات المشاهدة كي لا يقع المشاهد في فخ مشاهدة الحلقة الواحدة مرتين، وهو ما يعد إهداراً للطاقات وتضييعاً للأوقات، جعلت كثراً يجهزون خريطة رمضانية تضمن أكبر كم من المشاهدة المتنوعة في غضون ساعات اليوم المتاحة، مع إمكانية متابعة ما سقط سهواً منها بحكم انقطاع التيار الكهربائي أو ما شابه على الشبكة العنكبوتية. كما تنبهت صحف ومجلات عدة للمطلب الشعبي الجارف فباتت تطبع «إمساكيات درامية» تحوي قوائم بالمسلسلات والقنوات ومواعيد الإعادة محققة شعار الثورة المعدل «عيش حرية إمساكية درامية». ويبدو أن الدق على أوتار الثورة سمة رئيسية من سمات الشاشة الصغيرة منذ اندلاع ثورة يناير، لكنه جاء هذا العام محملاً بقدر أكبر من الانكشاف ونكهة أوضح لإعادة ترتيب العلاقات وتقويم العداوات وعقد المصالحات. وعلى رغم أن مداهنة جماعة الإخوان أو محاباة الجماعات الدينية التي قفزت إلى الحكم وسدة المجتمع عقب ثورة يناير لم يكن يوماً سمة من سمات الدراما المصرية، إلا أن نكهة كشف الغطاء وإزاحة القناع عن هذه الجماعات جاءت أوضح هذا العام. فمن «تفاحة آدم» والتدليس الذي تمارسه قيادات هذه الجماعات لتغييب عقول شبابها وسلب إرادتها إلى «إمبراطورية مين» الساخر من الأوضاع في مصر بعد ثورة يناير إلى «صديق العمر» ومزيد من تعرية جماعة الإخوان تاريخياً، يدق عدد من مسلسلات رمضان على أوتار التشابك المرضي بين الدين والسياسة والذي ضرب جوانب من الحياة في مصر في مقتل. وعلى رغم أن القتل بالتدخين أحد أبرز وأخطر أسباب الموت والإصابة بالأمراض، إلا أن دراما هذا العام جاءت في الشهر الكريم مغلفة بطبقات لا نهائية من الدخان. وقد حاول أحدهم أن يحصي عدد علب السجائر التي دخّنها الأبطال والبطلات في شتى المسلسلات والحلقات، لحساب أرباح شركات السجائر، إلا أنه عجز عن ذلك نظراً الى ضخامة العدد. ويكفي أن الدراما جعلت من التدخين غير المنقطع ركناً من أركان العلاقة بين الرئيس الراحل جمال عبدالناصر والمشير عبدالحكيم عامر في «صديق العمر»، حتى كاد الدخان لكثافته يحجب العبارة التحذيرية «التدخين ضار جداً بالصحة» التي تظهر أسفل الشاشات طيلة تدخين الأبطال لسجائرهم الدرامية. ومن التدخين الدارمي إلى التفخيخ السياسي الذي حوله عدد محدود من القنوات الخاصة وجبة رمضانية دسمة تلقى قبولاً وتحظى بشعبية على مدى الأعوام القليلة السابقة حيث توابل رمضانية ومشهيات روحانية تتلخص في أسئلة ساخنة واتهامات موجهة وفتح ملفات قتل وتعذيب تارة، ومتاجرة بالدين واستغلال هموم الفقراء سياسياً تارة. ويلاحظ أنه على رغم ظهور عدد من هذه النوعية على خريطة رمضان التلفزيونية هذا العام، إلا أن نجمها لم يسطع على غير العادة. وقد يعود ذلك إلى تشبع المشاهدين بالتفخيخ على أرض الواقع، أو قرارهم الطوعي بأن سعتهم الاستيعابية لمزيد من الضغوط والتوترات قد نفدت. وعلى رغم أن موضة برامج المقالب و«الكاميرا الخفية» التي دخلت مرحلة «سن اليأس» بكل أعراضه قد ولت ودبرت، إلا أن هناك من لا يزال يؤمن بأن المقالب يجب أن تكون سيدة الموقف في رمضان، وإن الإمعان والإفراط في اختلاق المواقف المؤججة للصراخ والعويل، والمفجرة للشتائم والسباب، والمسببة للفزع والرعب هي الطريق الأقصر لجيب المعلن. الإعلانات الطبقية ويمكن القول إن رمضان هذا العام كشف وجهاً إعلانياً جديداً، وإن لم يكن بالضرورة حميداً. فبعد عقود طويلة أهدرها المشاهد أمام الشاشة متحملاً سخافة إعلانات السمن ومتكبداً عناء مسابقات الصابون ومتجرعاً سموم كريمات تفتيح البشرة أملاً في متابعة المسلسل بعد فاصل إعلاني طويل، وجد المشاهد نفسه هذا العام أمام ظاهرة إعلانية فريدة تروج ظاهرياً لشقق سكنية وفيلات وقصور في منتجعات مغلقة ذات مسابح خاصة وحدائق غنّاء وأجواء تضاهي أوروبا وتنافس هاواي. وإذا كانت نسبة الفقر في مصر تدور حول نسبة ال40 في المئة يمسكون بتلابيب خط الفقر بشكل أو بآخر، فإن الفيلات المليونية المتكلفة إعلانات بليونية لم تكتف بالدق على أوتار الاحتقان الطبقي وتأجيج نيران الحقد الاجتماعي ونكء جراح الصراع الاقتصادي، بل سقطت في فخ التشهير والتجريح في القطاعات العريضة غير القادرة على هجر عشوائية الشقق السكنية المتكدسة والشوارع القاهرية المشلولة والفوضى الأخلاقية العارمة. فأولئك المحبوسون في مدنهم الملوثة وشققهم المتواضعة كائنات لا تحل صراعاتها إلا بالضرب والسب، ولا تعبر عن مشكلاتها إلا بالشتائم والمطاوي، ولا تخوض حياتها اليومية إلا بقدر هائل من الوحشية ما يقلبها إلى وحوش مريضة. ويبدو أن التعالي الطبقي تحول سمة رمضانية إعلانية، فقد امتد الفيروس القاتل إلى إعلانات نوع معين من الهواتف المحمولة التي لن يجدها المستهلك الراقي كغيرها في أيادي السوقة والدهماء. من يشاهد ماذا ولماذا؟ ويظل السؤال عالقاً حتى بعد انتهاء رمضان. من يشاهد ماذا؟ ولماذا؟ «المركز المصري لبحوث الرأي العام» أجرى استطلاعاً حول نمط مشاهدة المصريين في رمضان للدراما. فجاء ترتيب المسلسلات كالآتي: «إبن حلال» (33 في المئة)، «دلع بنات» (14 في المئة)، «سجن النساء» (9 في المئة)، «تفاحة آدم» (6 في المئة)، «السبع وصايا» (6 في المئة)، «صاحب السعادة» (5 في المئة)، ولم يحصل أي مسلسل آخر على نسبة أعلى من أربعة في المئة. وتأتي هذه الاختيارات بهذا الترتيب منافية لما يعتقد أنه التوجه العام لدى المشاهد المصري، اذ لا يخلو حديث رمضاني من «سجن النساء» و«السبع وصايا» و«صاحب السعادة»، كما لا يخلو من انتقاد لبرامج المقالب التي تكلفت الملايين، وأيضاً لا يخلو من شجب وإدانة للإعلانات الطبقية المؤلبة للأوجاع الاقتصادية والمقلبة للأحقاد الاجتماعية. ويمضي رمضان بمسلسلاته ومقالبه، وبعوارضه الجانبي منها والأساسي، وبثروات أغنت جيوب أصحاب القنوات وشركات الإعلانات وثورات تحولت لقطات في مسلسلات وإعادة تقويم علاقات بين الشعب وشرطته وشطب جماعي لجماعات تلاعبت بالدين فلعب بها الجميع، وبمونديال لُعبت مبارياته على إيقاع المشروبات الرمضانية، لكن الأهم والأبرز هو طلاق جماعي بيِّن وانفصال اختياري بين السياسة وأهلها ورمضان وناسه.