يحلو لخصوم رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي تشبيهه بشخصية دون كيشوت المولعة بالمغامرات، العاجزة إلا عن القرارات غير العقلانية. بعد تسع سنوات على الغزو الأميركي الذي أطاح صدام حسين و «البعث» العراقي، يسأل العراقيون عن «الربيع العربي» الذي صدّت رياحه عن بلاد الرافدين صفقات السياسيين لمنعها من تفكيك «امبراطورية» المالكي «الديموقراطية». وهي ديموقراطية بامتياز، كما يرى «العرّاب» الأميركي للغزو والتحرير من الديكتاتورية البعثية. وقبل شهور كانت بلاد الرافدين تضج بصخب المحتجين على الفقر والبطالة وغياب الخدمات وسطوة السمسرات والعمولات، وهيمنة مافيات السرقات. اكتشف أصحاب المحاصصات أن إخماد الغضب، وحده سيمنع الطوفان الذي إن حلّ أطاح فسيفساء السلطة وقوائمها ورموزها. انفضت الحشود الغاضبة، عاد دون كيشوت إلى عهده السابق، «فارساً» هزيلاً يناطح الأزمات بسيف الجار الإيراني. ولماذا «الربيع»؟ لا يعير نوري المالكي أُذُناً إلى «سيمفونية» النفط الملتهبة بين بغداد وإقليم كردستان، بالاتهامات المتبادلة التي ينتهي النفط العراقي معها في إيران وإسرائيل، وتتبخر معها بلايين الدولارات، بالنيات الحسنة والصفح عما مضى. هناك سواه مقبل، وإذا سئل البرلمان عن دور المحاسبة والرقابة، لن يكون جواب، لأن المجلس مرآة لفسيفساء السلطة المتخاصمة، إلا على ترك الغارب على غاربه. حكمة دون كيشوت المالكية، تقتضي احتواء الأزمات بعد افتعالها، أو إثارتها لتشويه سمعة الآخر، حتى إذا تحقق الأمر، انصرفت سلطة الشفافية إلى أزمة الحوار الوطني العالق على عتبة رئاسة الوزراء: مزيد من «القصف» على «القائمة العراقية» (بزعامة إياد علاوي)... ثم تمضي حكومة المحاصصة الى أزمة أخرى. المعارضون لنهج المالكي الذين يعترفون باجتيازه امتحان استضافة بغداد القمة العربية (للربيع)، يعتبرون أنه أبدع مجدداً في إعادة إنتاج أزمة العلاقات العربية للعراق الجديد، بمجرد مرور ساعات على انفضاض القمة. عاد العراق الى «الحاضنة العربية»، وخاصمها بعد أيام. أغضب المالكي وقوف السعودية مع الشعب السوري، ودعوة قطر نائب الرئيس العراقي طارق الهاشمي الى الدوحة، وكاد أن يرسل طائرة مع مذكرة جلب لاقتياده الى المنطقة الخضراء، بوصفه «إرهابياً». حكمة دون كيشوت في بلاد الرافدين، لا تعترف بالأعراف الديبلوماسية، وأن السياسة الخارجية لأي دولة شأن سيادي، بصرف النظر عن رغبات رأس «محور الممانعة» في طهران الذي يوزع الأدوار على حلفائه، ويصدر شهادات حسن سلوك للدول والزعامات، كلما شهدت المنطقة «هجمة امبريالية شيطانية». والشيطان في هذه الحالة شيطانان: واحدهما (اميركا) يبرم معه المالكي عقد شراكة استراتيجية، والثاني (أميركا) لا تتخلى طهران عن عقد الخصومة المعلنة معه، بعدما أثبتت عقود من الزمن أن ضجيج الحرب التي لم تندلع ولم تنتهِ بينهما، تكاذب مشترك لتحالفهما الخفي. أوَليست «حكمة» أن تكون صديقاً لإيران و «الشيطان» في آن؟ أليست «فضيلة» حماية مصالح العراق وطبقته الحاكمة، ولو اقتضى الأمر استهجان ثورة شعب وتحجيمها؟! يسألون في بغداد، منذ انفضاض القمة العربية، عن أموال تبخرت، كانت خُصصت للتحضيرات لحدث يعيد العراق إلى بيته، للمرة الأولى منذ 22 سنة. الملايين تبخرت، ليست معضلة طارئة، وأما العودة فمسألة أخرى، لأن كثيرين من العراقيين يرون وراء المالكي، استمراء الحضن الإيراني الذي كان وحده دافعاً لإرغام رئيس الوزراء على تبديل موقفه من النظام في دمشق. دون كيشوت ما زال على الفَرس، فلماذا «الربيع»؟ ولماذا يحتاجه العراقيون؟ هل ما زال صدام في السلطة؟ أليس البلد «جنةَ» شفافيةٍ ومساواةٍ بين المواطنين وحقوقهم، وعدالة لا تميز بين السنّي والشيعي، الأكثري والأقلوي؟... و «جنّة» أمنٍ مسترخٍ رغم «أمراء» القاعدة، والسيارات المفخخة، وعلاقات «نموذجية» بين الكتل البرلمانية، رغم شكوى بعضها من الاعتقالات العشوائية وتسييس القضاء وترهيب الخصوم (الهاشمي، صالح المطلك...)، وخطف مشروع الحوار الوطني؟ أما المعطّل في الدولة العراقية اليوم، فسيبقى كذلك، لأن سقف «التوافقات السياسية» بات أعلى بكثير من الدستور، و «التوافقات» ليست سوى صنو للمحاصصة، مهما استخدمت السلطة من أدوات لتجميل الواقع. ويمكن قانون النفط والغاز الذي لم يعبر تحت قبة البرلمان بعد، أن يشهد حرب البلايين والأنابيب بين بغداد والأكراد: مَن يدفع للشركات، ومَن يقبض ثمن النفط، ومَن يهرّبه؟ وأما السؤال «أين أموال العراقيين؟»، فلعله لا يعني دون كيشوت الغارق في هموم الإقليم والتوازنات الكبرى، التي يراها ساطعة، ولو من على ظهر فرس هزيل.