مَن يصغي الى الرئيس باراك أوباما وهو يتحدث عن انسحاب آخر الوحدات العسكرية الأميركية من العراق «بشرف وبرؤوس عالية»، يظن أن الأميركيين يحتفلون بمساعدة شعب على تحريره من قوات احتلال... فيما هم سعداء بتنفيذ الرئيس وعده الانتخابي بتحقيق انسحاب «آمن» من الجحيم العراقي. صحيح أن موجات التفجيرات تنتعش مجدداً هناك، لكن كل النعوش ليست أميركية، وطهران المتهمة بالاستعداد للانقضاض على «الفراغ» بعد رحيل جنود الولاياتالمتحدة «برؤوس عالية»، تبدو ظاهرياً ضحية «غدر» واشنطن التي سعت إلى صفقة «الانسحاب الآمن»، وما أن تحققت لها حتى انقلبت الى ضفة التصعيد ضد إيران وبرنامجها النووي. طأطأت طهران رؤوس حلفائها، فامتنعوا عن ضرب الأميركيين، وجاء سيناريو الاتهامات المتبادلة مع إدارة أوباما على مدى السنة، كأنه غبار للصفقة. وإن كان أصحاب نظرية المؤامرة يدلّلون على واقعيتها برعاية الوجود العسكري الأميركي في بلاد الرافدين منذ 2003 «الوصاية» الإيرانية على السلطة العراقية، فيكون الأمن لبغداد أميركياً والسياسة إيرانية، فالحال أن المنطقة ونظامها العربي قبل «الربيع العربي» وبعده، لا يخفيان عقدة اضطراب التابع، أو القاصر الذي يتوهم بأن ما يقدمه الوصي هو فعل خير خالص، معياره النية. ما بين التابع والقاصر، نموذج ثالث هو «المناطِح» الذي يُزعَم أن تنظيم «القاعدة» أبوه، وضحاياه هم المسلمون وليس الاحتلال وقواته. تقول قيادة خامنئي إن رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي الذي استقبله أوباما في البيت الأبيض، ليس اميركياً ولا يمد يده الى «الشيطان». يقول الرئيس الأميركي إن المالكي ليس إيرانياً وإنه يصدقه في رفضه أي تدخل خارجي في العراق. وإن كان بين العراقيين الذين يرفضون نظام المحاصصة في السلطة، من يتندّر بقدرتها على حب «الشيطانيْن» في واشنطنوطهران، فالمفارقة الأخيرة عشية انسحاب آخر الوحدات الأميركية، أن تتزامن لقاءات المالكي في الولاياتالمتحدة لتدشين «صفحة جديدة» من الشراكة، مع احتفاء الإيرانيين برئيس «المجلس الأعلى الإسلامي» العراقي عمّار الحكيم، وتذكيره بأن الوقت حان لتنفيذ «المشاريع الاستراتيجية» التي اتُفِق عليها خلال زيارة الرئيس محمود أحمدي نجاد لبغداد. فلنصدِّق أن حال جمهورية نجاد المتوثبة لملء الفراغ حيث ينسحب الأميركيون (أفغانستان بعد العراق)، هي تماماً كحال أميركا أوباما، كلتاهما تريدان العراق قوياً مستقراً ومزدهراً، الى الحد الذي يثير الحسد لدى العرب! وفي كل الأحوال، لا يرى المالكي سوى الشركات الأميركية لأنها الأفضل في العالم – كما يقول – للنهوض بالبلد ومشاريعه. لم يرَ أوباما أفضل من نهاية 2011 لاستثمار الانسحاب من حربٍ لم تكن حربه، في حملته للانتخابات الرئاسية. يتخفف من عبء قرارات بوش العراقية (4 تريليونات دولار و5 آلاف قتيل أميركي)، من دون ان يُقدِم بَعد على تبني الانتصار في حرب أفغانستان. يستطيع ادعاء النجاح في إقناع الحلفاء الغربيين بتقاسم الأعباء العسكرية حتى النهاية، لكن ما يُجمع عليه معظم الأميركيين هو أن إدارة أوباما لا تملك خريطة طريق واضحة المعالم لأي استراتيجية لضبط موازين القوى بعد الانسحابين، إلا إذا كان الهدف الأقصى إدارة السياسة الخارجية بمنطق الشركات وعقود النفط وصفقات السلاح. يتذكر عراقيون مشهد نجاد ضاحكاً في قلب المنطقة الخضراء في عاصمتهم (عام 2008)، كأنه يخاطب الأميركيين: «سنرى من يضحك آخِراً». وبعيداً من الصراع على النفوذ، ونظرية «المؤامرة»، الواقع الذي لا يمكن محوه من ذاكرة العراق وتاريخه، هو ان الغزو وإطاحة ديكتاتورية صدام، والاحتلال، وموجات القتل والحروب المذهبية، كلّفت العراقيين عشرات الألوف من الأرواح. ولأن «الفراغ» يطلق مخاوف من حروب بالوكالة، لن يكون لآمال المالكي ثمن زهيد، فيما ألغام الأزمات جاهزة: من حماية حقول النفط إلى تضخم طموحات الأقاليم في ظل مظالم «الاستئثار» والحصص، إلى عقدة نفط كردستان وعقوده، ومصير كركوك... وإنهاء سرطان الإرهاب، «هدنة». أوباما سعيد بالخلاص من جحيم العراق. نجاد يضحك شامتاً ليسجل مكاسب داخل إيران. المالكي مرتاح إلى شراكة أعجوبة لا يهزها عداء واشنطن ل «رأس محور الشر»، ولا عداء طهران ل «الشيطان». وأما العراقي خارج المنطقة الخضراء، فلا يواجه في عهد ديموقراطية المحاصصة، سوى معتقلات التعذيب، وسواد الفساد ومافياته التي تحتمي بخيوط خفية مع «الأقوياء». ينتهي عهد الاحتلال، لم تبدأ بعد الحرب على المحاصصة لبناء دولة المساواة. من دونها أي حرية ما بين النهرين؟ مَنْ يضحك آخِراً؟