اتّسم البيان الختامي لاجتماع «أصدقاء سورية»، الذي عُقد في اسطنبول في 1 نيسان (أبريل)، بالأهمية السياسية البالغة لثلاثة أسباب: الأول هو إظهار تشديد الالتزام الإقليمي العربي والدولي بعملية «الانتقال السياسي المؤدّي إلى دولة حرة ومستقلة، مدنية ديموقراطية تعددية، في سورية»، ما يؤكّد الرسالة الموجَّهة إلى أعضاء النظام السوري ومناصريه، وكل مَن بقي خارج حلبة الصراع المباشر، بأن عزلة النظام لن تخفّ، وأن انتهاء التدهور المستمرّ للأوضاع الاقتصادية والأزمة المالية الخانقة بات مرتبطاً بشكل وثيق بالاستجابة لمطالب المعارضة بإعادة هيكلة السلطة السياسية في البلاد. ثانياً، اعتراف «أصدقاء سورية» ب «المجلس الوطني السوري» كممثل (وليس الممثل) لجميع السوريين، واعتبروه المظلة (الوحيدة) لتجميع أطياف المعارضة كافة. ويوفّر ذلك دفعةً قويةً للمجلس باعتباره القناة الضرورية للاتصالات السياسية والدبلوماسية، إضافةً إلى المعونات المالية والإنسانية. يتّسم هذا الاعتراف بالأهمية خاصة في حال ثبات وقف إطلاق النار الذي تعهّدت به الحكومة السورية ابتداءً من 10 نيسان (أبريل)، وفي حال الانطلاق ب «الحوار السياسي الشامل» الذي دعا إليه مشروع ممثل الأممالمتحدة وجامعة الدول العربية الخاص كوفي أنان. صحيح أنه يصعب التفاؤل باحتمال حصول هذه التطورات الإيجابية، غير أن اعتراف «أصدقاء سورية» ب «المجلس الوطني» يحرم النظام من إمكانية اختيار المعارضة التي يريد أن يتحاور معها، كما فعل في الماضي، ويرغمه على إجراء الحوار تحت إشراف الوسطاء الإقليميين والدوليين. غير أن الأهمية الثالثة لبيان «أصدقاء سورية» تكمن في الحدود الواضحة التي وضعها لتحرّك الأطراف الخارجية نحو مواجهة النظام السوري في المرحلة الحالية. وحتى بعض قيادات «المجلس الوطني السوري» تُقِرّ بأنه لن يحصل تدخّل عسكري خارجي في الأمد المنظور، حتى لو أنها تأمل بأن يتغيّر ذلك وتواصِل المطالبة به. ومغزى ذلك أن «أصدقاء سورية» قد وضعوا «المجلس الوطني» أمام تحديات رئيسة عدة. أوّلها، معالجة مسألة افتقاره إلى برنامج سياسي، أي «خريطة طريق» لانتقال السلطة، إذ إن مجرد المطالبة برحيل الرئيس السوري بشار الأسد، أو اعتبار ذلك الهدف النهائي لأي عملية تفاوضية، لا يجيب على أسئلة هامة مُلِحّة: ليس أقلها كيفية التعامل مع الشريحة الواسعة من الجماعات السياسية والاجتماعية التي تنظر بريبة إلى زوال نظام وحلول غيره، مهما كان موقفها من النظام الحالي أو اعتراضها على نهجه وعنفه. ماذا سيحصل لكبار مسؤولي الدولة والحكومة والإدارات، علاوة على الصفوف الأعلى حتى الأدنى من حزب البعث؟ هل هناك ما يوحي باستعداد هؤلاء لتسهيل مهمة الانتقال السلمي والمنتظم للسلطة، من دون ترتيبات وتطمينات سياسية مسبقة؟ ثمة مَن يقول في قيادة «المجلس الوطني السوري» أن المشكلة برمّتها تنحصر بالرئيس الأسد و «العصبة» التي حوله، وأنه يسهل حلّها برحيله، لكن ذلك يشكّل تبسيطاً للأمور وتفادياً للأسئلة الصعبة. أما التحدي الثاني، أنه في غياب التدخل العسكري الخارجي، سيجاهد «المجلس الوطني» ليحتفظ بالزخم الدبلوماسي في الخارج، وبالمبادرة السياسية في الداخل، وهو الأمر الأهم. وسرعان ما سيكتشف، إن لم يدرك على الفور، أن اعتراف «أصدقاء سورية» بمكانته الخاصة سوف يثير آمال جمهوره وتوقّعاته إلى أكثر ما يحتمل أو يقدر على تلبيته، ما قد يدفعه إلى اتخاذ مبادرات سياسية جديدة لا تحظى بالإجماع في صفوف المجلس، ناهيك عن صفوف المعارضة عموماً. صحيح أن وثيقة «العهد الوطني لسورية المستقبل» التي قدّمها المجلس في لقاء إسطنبول، إلى جانب «العهد والميثاق» الجديد لجماعة «الإخوان المسلمين»، يطرحان رؤية مشرقة لمستقبل ديموقراطي تعددي يحترم الحقوق والتنوّع، إلا أن المهمة الأصعب لا تزال تكمن في توضيح الخطوات والآليات اللازمة للمرحلة الانتقالية المقبلة، إذا كان لها أن تحصل. ثالثاً، يجيب عدد من قادة «المجلس الوطني السوري» وأطرافه على التحدّي السابق بالحديث عن «استعادة التوازن» مع النظام، ويقصدون بذلك بناء القدرة العسكرية الذاتية القادرة على درء العنف المستمر والعشوائي للنظام وردعه. غير أنه في غياب المناطق المحمية من الخارج، أو القواعد الحدودية في داخل البلدان المجاورة، وإمدادات الأسلحة، سوف تنحصر المعارضة المسلحة في داخل سورية، وتكون مبعثرةً في إطار مجموعات وتجمّعات صغيرة لتفادي الحصار والدمار، ما يقوّض فكرة التوازن من أساسها. ولذا، فان البحث عن التوازن ضمن هذه الشروط يعني تجنّب الانكباب على تطوير البرنامج السياسي، من دون إيجاد الحلول لكيفية الاحتفاظ بالسيطرة على المجموعات المسلحة في الداخل، وتطوير «الجيش السوري الحر» كإطار هيكل قيادي منضبط وكقوة قتالية فاعلة، ومواصلة القيادة السياسية العليا للعمل العسكري. لذلك كله، قد يجد «المجلس الوطني السوري» أن «الحوار السياسي الشامل» الذي دعت إليه خطة أنان ليس بالمكروه الذي ينبغي تحمّله مؤقّتاً، بل يشكّل أداةً قويةً بين يديه، تتيح له إعادة المجابهة من المجال العسكري، حيث النظام يبقى الأقوى، إلى المجال السياسي، حيث المجلس هو الأقوى. ولا يزال هذا الطرح يثير الاتهامات المتبادلة بين أجندة المعارضة في الداخل والخارج، لكنه يمثّل التحدّي الأكبر الذي لم يضمحلّ أو يزُل. * باحث أول في مركز كارنيغي للشرق الأوسط - بيروت