تخصّص الروائيّة المكسيكيّة أنّا كلافيل روايتها «زهر البنفسج، زهر الرغبة»، (ترجمة رنا الموسويّ، الفارابيّ، بيروت 2011)، للحديث عن الرغبات الدفينة، واللاشعور، وتيّارات اللاوعي التي تُسيّر تصرّفات البشر، وتكون جملتها الافتتاحيّة بادرة لتبرير الجنون التالي المشفوع بعتمة الأحلام ولغزيّتها، «كلّ مَن انحنى فوق بئر رغباته يعرف ذلك». ثمّ تستشهد بشخصيّة تانتاليس في الميثولوجيا الإغريقيّة، تانتاليس المُشتهي التفّاحة على الدوام، لكنّه لا يلمسها إلّا بطرف لسانه من دون أن يتمكّن من أكلها. وبعدها تنقل حكاية على لسان بطلها خوليان الذي يتذكّر المدرّس الذي كان ينظر بحرقة وحسرة إلى الفتيات. بذلك تمهّد كلافيل للافتتان والاشتهاء والجنون، عبر تصوير صراع الآلهة الإغريقيّة ووحشيّتها في التعامل مع تانتاليس واستهزائها به. حيث بمجرّد النظر إلى الثمرة كان العذاب يغلي مجدّداً في أعماقه، تقتفي أثر تلك الرغبات وانعكاساتها الخطيرة وتأثيراتها اللاحقة. خوليان ميركادير، رجل مكسيكيّ يرث مصنع دمى من والده الذي استثمر النقود التي ورثها من أبيه في مشروع المصنع بالمشاركة مع صديقه الألمانيّ كلاوس فاغنر، الذي يكشف له ميوله، ويزيح النقاب عنها، بعد أن استقرأ المخبوء في داخله. يصبحان شريكين في تصنيع دمى مُحرّمة، دمى الفيوليت أو البنفسجات، لإرضاء نزوات الزبائن وانحرافاتهم. مراهقات أزليّات على تقاطع بين مملكتي الأرض والسماء. إذ تبدو تحويراً للخطيئة الأصليّة، توجيهاً لها نحو مناحٍ أخرى، تصعيداً وتبكيتاً معاً. زواج ميركادير ثمّ إنجابه ابنة يسمّيها فيوليتا، تغدو جنّته وجحيمه حين تكبر، يكون الحدث الحاسم، إذ يصنع لاحقاً دمى يسمّيها فيوليتا، تبدو مجرّدة من العينين غارقة في طهارة شرنقتها، تنظر إليه بحنان وضعفٍ وإثارة، وهو الغارق في دهاليز شغف محرّم، يشعر برغبة مجنونة محرّمة، يجاهد لتخطّي هوسه المجنون المَرضيّ، وتجنّب فجيعة الشعور بالذنب، يقوم بابتكار مجموعة من الدمى، يطلق عليها تسمية دمى «الفيوليت»، ترضي الرغبات الغريبة المجنونة للزبائن، ما يضع ميركادير في مرصاد جمعيّة سريّة تسعى إلى محو كلّ أنواع الانحراف. يؤكّد خوليان أنّ للنظرة تبعات لا تحصى، وأنّ كلّ شيء يبدأ بالنظرة وبالتأكيد الاغتصاب الذي يجده بلحمه ودمه حين يعرض أحدهم جسده ببراءة محرّمة محرّضة. يُبدي فهمه وإدراكه للعذاب الذي يعانيه مَن يستعر بنيران الرغبة، وذلك من خلال التغلغل في الأحلام التي تغدو كوابيس قاهرة كاوية. يعي من دون إدراك تامّ أنّ أكثر جمال غير محتملٍ هو ذاك الذي يعبّر في أشدّ خموله عن رغبته الجامحة في أن يُستباح. يغرق في تأمّلاته التي يفقد خلالها الشعور بالزمن. يصوّر انتعاش الحياة وانهيارها وهو يتنقّل على تخوم المدنّس والمقدّس، وفي ظلالهما. ذكرياته جروح دائمة تختصر حياته. لا يسمّيها جريمة لكنّه لا يدّعي البراءة المطلقة في الوقت نفسه، يزعم أنّه يسعى، عبر تصنيعه دماه وتصميمه لها بحالات وأشكال مختلفة، إلى إطفاء شغف يلهب أحشاءه بدلاً من توجيهه إلى مَن أشعله من دون رحمة. كما يزعم أنّه أراد مساعدة آخرين على إنقاذ أنفسهم على طريقته الخاصّة. يتحدّث عن أحلام الرجال وأسرارهم وألغازهم وشطحاتهم، كما يتحدّث عن طموح الدمى في التجسّد الحيّ، وطموحه المتمثّل ببثّ الروح فيها. يعرّف الانحراف بأنّه هو ما يؤذينا من دون أن يدعنا نشيح النظر، وأنّه يوقظ الغياهب الصامتة فينا ورغبات ملحّة يستحيل البوح بها، وهي ظلال تترصّدنا وتتوق إلى التجلّي فينا. ينتقد الجمعيّة السريّة التي تزعم حماية القيم والمثل، يقول إنّ على أعضائها أن يتذكّروا قليلاً أحلامهم الخاصّة، والاعتراف بتلك اللذّة التي قد تشعرنا بها أيادٍ مجهولة آتية من مملكة الظلمات، مخترقة بشرتنا في عملية صامتة وخالية من الألم. بعد ازدهار صناعته التي تنقذه، والتي لولا زراعة الرغبات الجامحة المنفلتة من كلّ عقال في حدائق الآخرين، لكان وقع ضحيّة الجنون. يتلقّى من أحدهم هدايا، يكشف له هويّته لاحقاً، يكون مصمّم دمى جنسيّة سابقاً له قصصه الغريبة ووساوسه التي يفلح في تسريبها إلى خوليان. يكون أوراسيو إرنانديز مهووساً برهاب الآخر، يحكي تخميناته البوليسيّة ولعبته الفنية في تقمّص شخصيّة أخيه، للتهرّب من العقوبة والتصفية المحتّمة على أيدي الجمعيات السريّة، التي تنصّب نفسها محاكم تفتيش، لمحو خطيئة الشهوة واعتبارها الخطيئة الأصليّة. يغرق في الأحلام مكرّراً «الإنسان هو حلم ظلّ»، وأنّ الحلم يلخّص الإنسان بكلّ تناقضاته وحيرته. يقع أسير تيّارات سريّة ودوّامات مدمّرة، يقع رهين جسد تكون كبرى خطاياه هي براءته. يفقد الإرادة، يخضع لإرادة خارجيّة تجرفه إلى أماكن كانت موجودة في مخيّلته، يدخل سمّ الشكّ إلى الجسد الذي تسكنه الخطيئة وتقوده. ويكون المصير الضبابيّ الأقرب إلى العقوبة الواجبة، إذ يتمّ إقفال المصنع بعد مقتل كلاوس الفاجع الغامض، ويرفض خوليان أيّة صفقات مقترحة وعروض لبيعه. تتبرعم الرغبات وتزهر البنفسجات، تتلوّن حياة خوليان، يزهر البنفسج في جسده، يتشرّب عطراً لا يقاوَم. زهور البنفسج هي زهور رغبته الجامحة الشريرة. يغوص في سجن ذاته، وهو يكشف عن عواصفه وأعاصيره الداخليّة بالموازاة مع العواصف الخارجيّة. يصف ما فعله بأنّه مجرّد السير نحو حافّة الهاوية وإطاعتها. ينتظر ارتقاء العطر والزهر والرغبة بنعومة وإيلام من أعماق الأحلام وعتمتها الملغزة، والتجسّد واقعاً محلوماً به. ترصد الكاتبة المحاولات اللاشعوريّة للاقتراب من الجسد المُشتهى؛ الجسد الذي يتجسّد بالرغبة، ويكون تجلّياً دائماً لها. تروي كيف أنّ شبكة الإنترنت ستؤمّن بحاراً من المعلومات وشتّى أنواع الجنس الافتراضيّ الذي ليس من شأنه إلّا تعميق الجرح، والتشديد على غياب المرغوب فيه وسحره الذي لا يُعوَّض. تصف انتهاك الحرمات، وتدنيس المحرّمات. وكيف أنّ الشغف يصبح مُعدياً حين يوقظ في المرء مرضاً مستتراً اعتقد أنّه قضى عليه. كما تصف صمت الأحلام وصراخها الوحشيّ الداخليّ، وتصوّر الذنب النابع من بئر الرغبة العميقة، التي ما هي إلّا جوع وغريزة. ثمّ تنقل تعاظم الإشكاليّات التي تثير الشكّ المحيّر عبر إطلاق الأسئلة الصادمة، من قبيل: كيف تنسج الرغبة التي يستحيل الإفصاح عنها...؟ أيجوز استنكار المحرّمات علماً أنّ هناك تشاركاً فيها بطريقة أو بأخرى...؟ هل ما تقدّمه وساوس قهريّة، أكاذيب قاسية، أم حقائق كافرة...؟ تبدو رواية كلافيل خلطة أدبيّة من أعمال تتقدّم في ظلالها وتتحرّك تحت تأثيراتها، توظّف عوالم عدد من الروائيّين والمفكّرين، لتقدّم روايتها، فهي تتناصّ في بعض جوانبها مع رواية «لوليتا» الذائعة الصيت لنابوكوف، ولا سيّما في الشغف المحرّم، والاشتهاء المجنون، والتحرّش المبطّن، فضلاً عن تسمية الفتاة «فيوليتا»، واستشهادها بسلوك بطل لوليتا مع لوليتا في الرواية على ألسنة الشخصيّات. كما تتناصّ مع رواية «العطر» لباتريك زوسكيند وبخاصّة في الفصول الأخيرة، التي تركّز فيها على طريقة استخراج العطور، وخصائص العطر وتأثيراته. وكذلك تتجلّى تأثيرات بعض الروايات البوليسيّة، التي تصوّر جمعيّات سريّة تسيّر الكثير من الأمور، أو تخطّط الكثير من المؤامرات والدسائس، وقبل هذا وذاك، يكون التأثّر الكبير بعوالم فرويد الفلسفيّة، وتحليلاته النفسيّة، وبخاصّة في تقسيماته الشهيرة للنفس، وإحالاته التصرّفات المنبثقة عن المرء إلى رغبات جنسيّة، مكبوتة أو معلنة، أو غير مقدور على الإفصاح عنها، حتّى ولو كان في السرائر. أنّا كلافيل المولودة في مكسيكو عام 1961، ألّفت عدداً من الروايات، منها: «خارج المشهد» 1984، «سجن الحبّ» 1992، «جنان مرتعشة» 2002 وغيرها. حازت جوائز منها: الجائزة الوطنيّة للحكاية التي تحمل اسم الشاعر المكسيكيّ خيلبيرتو أوين 1991، وعلى الميداليّة الفضيّة عام 2004 من الجمعيّة الأكاديميّة للفنون والعلوم والآداب في فرنسا. ونالت جائزة خوان رولفو التي تمنحها إذاعة راديو فرانس أنترناشيونال عن روايتها «زهر البنفسج، زهر الرغبة».