للمرة الثانية خلال أقل من شهر، يفوز كاتب من أسرة «الحياة» بجائزة أدبية عربية كبيرة. في المرة الأولى كان الدور للزميل عبده وازن فائزاً بجائزة الشيخ زايد في أبو ظبي عن قصة كتبها للأطفال، وهذه المرة الزميل ربيع جابر عن روايته قبل الأخيرة «دروز بلغراد» التي توجتها «بوكر العربية» رواية العام في سباق خاضه عدد كبير من الكتّاب العرب. والحال إن هذا الفوز الأخير - والمفاجئ بالنسبة إلى الذين يعرفون جابر عن قرب ويعرفون استنكافه «الأسطوري» عن الاهتمام بالجوائز والصخب الإعلامي وألعاب العلاقات العامة، وهي تشكل عادة الجزء الأساس من لعبة الجوائز والتكريمات -، هذا الفوز إنما يأتي اعترافاً عامّاً بما كان قد بات بديهياً منذ أكثر من عشر سنوات: ربيع جابر قامة كبيرة في الرواية العربية المعاصرة. كاتب روائي مميزّ في عالم ما بعد نجيب محفوظ، إذ على مدى سنوات قليلة العدد نسبياً تمكن هذا المبدع الشاب من أن يفرض لنفسه حضوراً استثنائياً في نوع أدبيّ ينعى ألف مرة ويؤبن ألف مرة في اليوم. وتمكن بالتالي من أن يكوّن لرواياته جمهوراً قارئاً موزعاً في المدن والمناطق العربية، ويبدو أحياناً أشبه بالجماعات السرية والطوائف المؤلفة من أفراد يتخاطفون كل جديد لربيع جابر ما أن يعلن عن صدور هذا الجديد. منذ «البيت الأخير» حتى «طيور الهوليداي إن»، ومنذ «يوسف الإنكليزي» و»تقرير ميليس» وصولاً إلى «الاعترافات» و»أميركا» مروراً طبعاً بالثلاثية المدهشة «بيروت مدينة العالم» ونصف دزينة أخرى من الأعمال، صاغ ربيع جابر متناً روائياً لا يشبه أي متن آخر في التاريخ المعاصر للرواية العربية، بل يمكن ببساطة وضعه إلى جانب متون روائية معاصرة عالمية تحمل تواقيع بول أوستر أو راسل بانكز أو مارتن آميس أو أورهان باموك وإسماعيل كاداري، وربما أيضاً نايبول والطاهر بن جلون. وهؤلاء جميعاً يعرف جابر أدبهم جيداً ويقرأه بشغف، كما يقرأ معظم ما ينتجه الكتاب العرب المعاصرون، هو الذي في الساعات التي لا يكون فيها منكبّاً على عمله اليوميّ في «الحياة» يمضي بعض وقته في صحبتهم. ولكن، أكثر من ذلك في صحبة كل كلاسيكية تقع بين يديه وكلّ لوحة يشاهدها على حاسوبه وكل خبر يقرأه وفسحة من تاريخ لبنان يغوص فيها غائباً عن وعي اللحظة القائمة. وواضح أن هذا كله لا يترك لهذا الكاتب الذي قد يخاله كثر - لهذه الأسباب بالذات - غريب الأطوار مقلاً في كلامه وفي لقاءاته وفي احتفاله بنفسه وحتى في خوض أيّ نقاش حول عمله، أي وقت لفعل أي شيء آخر غير الكتابة. في هذا المعنى قد نراه محفوظياً بامتياز وعن سابق تصوّر وتصميم. والحقيقة أن الذين يقرأون روايات ربيع جابر - بشغف وحبّ بالضرورة - يفهمون هذا ويقدرونه. فعالم روائي يتجول بين التواريخ (تواريخ لبنان في شكل خاص) والأشخاص، والمواقع الجغرافية (من بيروت إلى الأندلس إلى الصين إلى البلقان...) والأحداث (من اغتيال الرئيس رفيق الحريري إلى حرب السنتين إلى الحروب البلقانية...)، عالم مثل هذا يتطلّب وقتاً وجهداً، وربما أيضاً ابتعاداً عن «الحشد المثير للجنون» كما في عنوان رواية إنكليزية كلاسيكية من النوع الذي يعرفه جابر جيداً ويكاد يكون خبزه اليوميّ. أمام هذه السمات، تتخذ دلالتها كلمة «مفاجئ» التي ذكرناها أول هذا الكلام... صفة لفوز جابر بالبوكر العربية. فالحال أن أمثال ربيع جابر من الصعب أن يفوزوا في مباريات الزمن العربي الراهن. ورواية مثال «دروز بلغراد» ما كان يمكن أن تحقق تفوقاً في هذا الزمن نفسه اللهم إلا حين تكون ثمة لجنة تحكيم برئاسة مفكر وناقد مثل جورج طرابيشي. في مثل هذه الحال فقط نفهم فوز ربيع جابر ونصفق له، مصفقين في طريقنا، ولمرة استثنائية، لجائزة حققت هي نفسها انتصارين في لحظة واحدة: مرة حين حكّمت جورج طرابيشي ومرة ثانية حين توّجت «دروز بلغراد».