لم تفلح كاميرات التصوير الكثيرة في حفل الجائزة العالمية للرواية العربية «البوكر»، أول من أمس في أبو ظبي، في أخذ لقطات للروائي اللبناني، الزميل في «الحياة» ربيع جابر (من مواليد 1972)، تبدو فيها عيناه واضحتين، وشاخصتين إلى الحضور، لا في المرة الأولى التي تسلم فيها، على منصة الحفل، براءة عبور روايته «دروز بلغراد، حكاية حنا يعقوب» (المركز الثقافي العربي) إلى القائمة القصيرة ذات الروايات الست، ولا في الثانية، عندما أعلن رئيس لجنة التحكيم، جورج طرابيشي، اسمه فائزاً بالجائزة الأولى «البوكر» في دورتها الخامسة، لما صعد إلى المنصة، بعد أن داهمته في مقعده تلك الكاميرات، ثم أخذت تحاول، في أثناء وقفته إلى جانب رئيس هيئة أبوظبي للسياحة والثقافة، الشيخ سلطان بن طحنون آل نهيان، تصوير التفاتة منه إليها وإلى الحضور، وهو المعروف بشدة تحسسه من الأضواء. وكان جمهور حفل الجائزة الأهم للرواية العربية قد خبر هذا الأمر لدى ربيع جابر في وقفته الأولى أمامهم في الدورة الثالثة (2010)، لما كانت روايته «أميركا» في القائمة القصيرة في ذلك العام. ولم يفلح زملاء في صحف وفضائيات في الحصول من جابر، بعد فوزه، على إجابات عن أسئلتهم المرتجلة، وكانت، في أغلبها، عن شعوره بهذا الفوز الذي كان الإجماع كبيراً بين كتاب وناشرين وقراء عديدين في ردهات فندق «روكو فورتيه»، في أبوظبي، على أحقية روايته الجديدة بالفوز، بل القول إنه فوز ينقذ دورة «البوكر» هذه من ضعف كثير شابها. والرواية هي ال 16 له، منذ الأولى «سيد العتمة» التي فازت في 1992 بجائزة «الناقد» للرواية. واكتفى حضور المؤتمر الصحافي الذي أعقب حفل «البوكر»، من ربيع جابر، وقد شارك فيه على غير رغبة منه، بما بدا تلميحاً منه إلى تحبيذه فوز «أميركا» بالجائزة قبل عامين، لكن حنا يعقوب، بطل روايته الجديدة، محظوظ أكثر، كما قال. معايير وخيارات شارك في المؤتمر الصحافي رئيس لجنة التحكيم، جورج طرابيشي، وقال إن أعمالاً من الروايات ال 101 من 15 بلداً تنافست على الجائزة حضر فيها ما هو قائم من أجواء في الأقطار العربية، تسوّغ الثورات التي قامت، غير أن لجنة التحكيم لم تقع، أبداً، تحت تأثير «الربيع العربي» في انتخابها الروايات الثلاث عشرة في القائمة الطويلة، ثم الست في القصيرة. وأوضح أن عدم اشتمال القائمة الطويلة على 16 رواية، كما المعهود في دورات «البوكر» الماضية، يعود إلى حرص اللجنة على صدقية اختياراتها، إذ لم تجد تحققاً لمنسوب من الجودة يبرر إدخال ثلاث روايات أخريات. وتضم اللجنة، إضافةً إلى طرابيشي، المستعرب الإسباني غونزالو فرناندز، والصحافية اللبنانية مودي بيطار، والقاصة القطرية حاملة الدكتوراه في الفيزياء النووية هدى النعيمي، والناشطة النسوية أستاذة الأدب الإنكليزي المصرية الدكتورة هدى الصدة. وكانت الإجابة عن سؤال عن عدم صعود عمل لروائية إلى القائمة الطويلة، مع عضوية ثلاث نساء في لجنة التحكيم، أن اللجنة، في مهمتها غير المستحيلة وغير السهلة معاً، بتعبير طرابيشي لدى إعلان روايات القائمة القصيرة في القاهرة، لم تلتفت إلا إلى النصوص نفسها، ولم تعتن بجنس الكاتب، ذكراً أو أنثى، وبجنسيات أصحاب الروايات المتنافسة، وبأهوائهم السياسية. وكان السؤال الدائم في دورات «البوكر» عن معايير اختيار الرواية الفائزة وشقيقاتها الخمس في القائمة القصيرة، حاضراً، فأوضح طرابيشي أنه لم تكن هناك معايير مطلقة، فليس ثمة معادلة رياضية يحتكم إليها في هذا الخصوص، غير أن عضو اللجنة، مودي بيطار، ذكرت أن من أهم ما نظر إليه في قراءة النصوص المرشحة هو الاعتماد على الذائقة، ومدى حضور شخصيات مقنعة وصلبة ولغة فنية فيها. وبدت إشارة طرابيشي إلى اختلاف أذواق أعضاء اللجنة دالةً في أن الوصول إلى فوز «دروز بلغراد» بجائزة «البوكر» تم بالأغلبية في تصويت عليها، وليس بالإجماع. وأورد بيان صحافي أن اللجنة أثنت على هذه الرواية «لتصويرها القوي هشاشة الوضع الإنساني من خلال إعادة خلق فترة تاريخية ماضية في لعبة عالية الحساسية». وذكرت مودي بيطار أن مما يميز ربيع جابر بحثه العميق في موضوع روايته، وتمكنه في تصوير الخلفيات الثقافية لشخصيات عمله الذي يتناول فصلاً من الحروب في تاريخ لبنان. ومعلوم أن «دروز بلغراد» تذهب إلى ما بعد حرب 1860 الأهلية في لبنان، وتنشغل بحكاية مسيحي من بيروت اسمه حنا يعقوب، يعمل بائع بيض، ساقته مقادير سوداء إلى أن يكون بين 500 درزي تم نفيهم إلى قلعة بلغراد عند تخوم الامبراطورية العثمانية، بديلاً عن واحد من هؤلاء دفع والده رشوةً إلى الضابط العثماني. وتمضي الرواية في ارتحال شائق وشديد الصعوبة وكثير العذابات مع يعقوب الذي يحاول البقاء على قيد الحياة في أهوال البلقان، وتسرد بلغة حارة وفي تفاصيل متنوعة معاناته وبقية السجناء الدروز طوال اثني عشر عاماً. نجاح خامس تتويج رواية ربيع جابر ب (البوكر) الخامسة جاء مقنعاً لكثيرين من متابعي الجائزة، لا سيما من أبدوا مقادير واسعةً من الاستهجان على سوية بعض الروايات الست، وقبلها بعض الروايات الثلاث عشرة، مع استبعاد أعمال وصفت بأنها أكثر أهميةً وجماليةً وقيمةً إبداعية، ترشحت في المنافسة، ولم تختر لجنة التحكيم أياً منها، ما جعل إشاعةً تروج عن عدم قراءة اللجنة كل الروايات المتقدمة، وهو أمر يصعب التثبت منه، وربما يندرج ضمن الصخب السنوي التقليدي في كل واحدة من دورات «البوكر»، والتي يحرص روائيون عرب على نشر تصريحات عن إزورارهم عن الجائزة، وعدم تقديم أعمالهم للتنافس عليها، صدوراً عن منظورهم الذي غالباً ما لا يرى أهليةً في تقييم النصوص لدى أعضاء في لجان التحكيم التي يختارها مجلس أمناء الجائزة العالمية للرواية العربية تبعاً لحيثيات تأخذ في الاعتبار تنوع مشاغلهم البحثية والإبداعية، إذ ليس شرطاً مستقراً أن يكونوا جميعهم من النقاد المحترفين، بل يستحب أن يكون منهم أهل اشتغال بالاجتماع والإعلام والعمل العام، من أصحاب ذائقة لا تنتسب إلى الاختصاص في قراءة الرواية. وعلى وفرة مؤاخذات سنوية في هذا الجدل، وفي تفاصيله، لا سيما مع إعلان روايات القائمة الطويلة كل عام، إلا أن جائزة «البوكر» استطاعت أن تحافظ على جاذبيتها الواسعة، وتمكنت في سنتها الخامسة من حماية مكانتها الخاصة بين جمهرة قراء الرواية العربية وناشريها، وكذا في الصحافة الثقافية العربية. وتبدى، أول من أمس، أن موسمها هذا العام لم يتأثر قليلاً أو كثيراً بأي ملاحظات، محقةً أو غير محقة، في شأنها عموماً، وبما تم تداوله كثيراً من تساؤلات تخدش في روايات وصلت إلى القائمتين، وأخرى تنوّه بروايات تم استبعادها. تمويل جديد حرص القائمون على حفل أول من أمس، والذي أداره عضو مجلس أمناء الجائزة الكاتب خالد الحروب، على إبراز أنه «احتفاء بخمس سنوات على مكافأة التميز في الأدب»، كما كتب على شاشة واسعة أمام جمهور الحفل، ما يؤشر إلى مسار ناجح للجائزة العالمية للرواية العربية، وبدا في محطة عيدها الخامس وكأنه عبور إلى انعطافة في هذا المسار، غير أن أحداً لم يشر إلى شيء من ذلك، واكتفى رئيس مجلس الأمناء، جوناثان تايلور، بالقول، في كلمته في الحفل، إن العام الحالي «مهم في تاريخ الجائزة» وإنه «لمصدر فخر لنا أننا استطعنا على مدى السنوات الخمس الماضية أن نكفل التقدير المعنوي والمكافأة المادية معاً (10 آلاف دولار لكل روائي من الستة، إضافة إلى 50 ألف دولار للفائز الأول) للفن الروائي الأدبي المتميز في اللغة العربية». وقالت رئيسة برنامج الفنون والثقافة في «مؤسسة الإمارات للنفع الاجتماعي»، سلوى المقدادي، إن «المؤسسة فخورة بأنها الجهة الممولة للجائزة، وواحدة من المؤسسات التي سعت إلى إطلاقها في سماء الأدب العربي». وقد تمسكت المؤسسة، طوال السنوات الخمس الماضية، بدعم «البوكر» وتمويلها، من دون أي تدخل منها في آليات عمل الجائزة العتيدة التي تدار بالشراكة مع «مؤسسة جائزة بوكر» في لندن، وفي اختيار لجان التحكيم، حرصاً على الاستقلالية التامة للجائزة وحياديتها، غير أن حديثاً راج عن تخلي «مؤسسة الإمارات» عن التمويل والدعم والرعاية بعد الدورة الخامسة، وهو ما لم ينفه نائب رئيس هيئة أبوظبي للثقافة والتراث، زكي نسيبة، في المؤتمر الصحافي، رداً على سؤال ل «الحياة» في هذا الخصوص، غير أنه أكد وجود توجه إلى تغيير في مصدر تمويل الجائزة، مع إبقائه من دولة الإمارات واحتفاظ أبوظبي بإسنادها الجائزة، وبقائها مدينة الاحتفال السنوي بالفائزين. وقال نسيبة إن لدى مجلس أمناء «البوكر» التأكيد على أن دعم أبوظبي الجائزة سوف يستمر، وبالآلية نفسها، وإن بياناً تفصيلياً في هذا الأمر سيصدر قريباً، ويحدد آلية الدعم والجهة التي سوف تقدم الدعم. وتعمل «مؤسسة الإمارات للنفع العام»، والتي أطلقت في 2005، على تعزيز الشراكة بين مؤسسات القطاعين العام والخاص، والاستفادة منها في تطوير مشاريع ومبادرات غير ربحية في دولة الإمارات. ويأتي تمويل المؤسسة من مساهمات لدعم برامجها، وصندوق احتياطي رأسمالي مدعوم من حكومة أبوظبي وشركات القطاع الخاص. وكانت أوضحت في بيان مقتضب أنها «تمر حالياً بمرحلة إعادة هيكلها التنظيمي، وذلك يتضمن إعادة النظر في أهدافها ورسالتها، ما يترتب عليها إجراء مراجعة شاملة للمشروعات والبرامج المختلفة التي تعمل لتنفيذها». ويبقى مهماً، هنا، التأكيد على استمرارية «البوكر» مع انتقالها إلى مرحلة جديدة تتعلق بتمويلها، ويبقى مهماً، أيضاً، أن فوز رواية ربيع جابر «دروز بلغراد، حكاية حنا يعقوب» بالجائزة في عيدها الخامس أنقذها، على الأغلب، من سهام غير قليلة كانت ستتوجه إليها من كثيرين لم يستحسنوا كثيراً من روايات الموسم الذي انقضى، وسيركز أضواء وفيرة على هذا الروائي اللبناني الشاب والدؤوب، والمنقطع إلى الكتابة الروائية بعيداً من الأضواء.