تعاني بريطانيا، مثل كثير من المجتمعات الغربية، تفككاً في التركيبة التقليدية للعائلة. بعض هذا التفكك ناتج من حالات الطلاق الذي لا تختلف نتائجه من مجتمع إلى آخر. كما يمكن أن ينتج أيضاً من «خصوصية» المجتمع البريطاني الحديث حيث يفترق الأولاد عن أهلهم لفترات طويلة في السنة منذ انتقالهم إلى الدراسة الجامعية أو مباشرتهم العمل بعيداً من المنزل الأسري. إلّا أن نوعاً ثالثاً من «التفكك» الأسري بدأت آثاره بالظهور في بنية المجتمع وتحديداً في العائلة التي تضم أماً وأولادها... من دون رب للعائلة، والناتج من عدم وجود زوج أصلاً. وتُظهر الأرقام الرسمية في بريطانيا أن هذا النوع من العائلات يبلغ حالياً 72 ألف أسرة، وهو رقم قد يبدو ضئيلاً مقارنة بعدد سكان البلاد البالغ أكثر من 60 مليوناً. لكن، على رغم «رمزية» العدد، إلّا أن دراسة حكومية صدرت أخيراً أظهرت للمرة الأولى وفي شكل واضح أن نسبة كبيرة من مفتعلي المشاكل في البلاد ينتمون، تحديداً، إلى هذا النوع من العائلات التي وصفوها ب «المفككة». وأوضحت الدراسة الحكومية المخصّصة لاستخلاص العبر من الاضطرابات المدنية التي شهدتها بريطانيا الصيف الماضي، حين قامت مجموعات من الشبان بعمليات نهب وتخريب واسعة النطاق للمحال التجارية، أن الغالبية العظمى من هؤلاء تنتمي في واقع الأمر إلى «أسر مفككة» لا تضم سوى الأم، أو ما يُسمى ب «الأم العزباء» (single mother). تظلم هذه الأرقام بلا شك كثيراً من الأمهات غير المتزوجات اللواتي يعملن ليل نهار لإعالة أبنائهن وبناتهن وتأمين أفضل دراسة ممكنة لهم. لكن الدراسة توضح في شكل قاطع أن نسبة كبيرة من هؤلاء الأبناء والبنات تفتقر إلى شخصية «مثالية» – كالأب أو الجد - يُحتذى في المنزل. وتشير الدراسة إلى أنّ ما يقارب ثلثي العائلات البريطانية «المفككة» التي ليس لديها أب يقيم فيها تكون هي المتسببة بالمشاكل أو المتورطة فيها. وعلّق وزير المجتمعات والحكومة المحلية إريك بيكيلز بالقول إن «العائلات التي تعاني المشاكل»، تعاني في الحقيقة من «انهيار كامل»، معتبراً «أن غياب الشخصية الإيجابية للأب يمثّل مشكلة كبيرة، تماماً كالآباء الموجودين (في المنزل) ويعانون من مشكلة خطيرة كتعاطي المخدرات، والإدمان على المشروبات الكحولية، ولا يعملون». ويوضح نظرة الحكومة إلى كيفية التعامل مع هذه الأزمة: «تحاول الوصول إلى وضع يوفر فيه الآباء الاستقرار لهذه العائلات، بمعنى عودتهم إلى العمل كي يحصّلوا مالاً ويصبحون مثالاً يُحتذى لأطفالهم». غياب الشخصية المثالية وكان رئيس الوزراء ديفيد كاميرون أعلن في كانون الأول (ديسمبر) الماضي مبادرة موازنتها 448 مليون جنيه تقوم على تأمين فرق من «حلّالي المشاكل» – خليط من الجمعيات الخيرية والمجالس البلدية وموظفي القطاع الخاص – لمساعدة 120 ألف عائلة من العائلات التي تعاني «مشاكل» كي تتمكن من تحسين مسار حياتها. و «حلّالو المشاكل» هؤلاء يُفترض أن يتعاملوا مباشرة مع العائلات المفككة لإقناعها بوقف الإدمان على الكحول أو المخدرات وضمان أن يذهب الأولاد إلى المدرسة ولا يقومون بتصرفات «غير اجتماعية». وتفيد تقديرات بأن العائلات المثيرة للمشاكل في بريطانيا تكلّف دافعي الضراب 9 بلايين جنيه في السنة، أو ما يوازي 75 ألف جنيه لكل عائلة لقاء حصولها على إعانات وخدمات اجتماعية. لكن محاولة ربط «الأسر المفككة» تحديداً بالطبقة الفقيرة التي تعتمد على الإعانات الاجتماعية من الدولة لا تلقى إجماعاً. إذ يلفت منتقدون إلى أن الطبقات المتوسطة والثرية تحوي أيضاً عائلات مفككة تعاني شريحة من أفرادها الإدمان على المخدرات، مثلاً، مقللين من أهمية هذه الظاهرة نسبة إلى عدد السكان. ومشكلة غياب الرجل «المثالي» في العائلة ليست بالأمر الجديد في بريطانيا. فقد كان بحث أجري عام 2009 أكد أن واحداً من بين كل ستة أطفال (تحت ستة أعوام) لا يقضي سوى أقل من ساعتين في الأسبوع مع الأب أو الجد أو رجل آخر يصلح أن يكون «مثالاً». وليس من المستغرب أن كثيرين من أبناء «الأسر المفككة» عندما يُسألون من هو «الرجل المثالي» في حياتهم يسمّون لاعب كرة قدم أو شخصية معروفة في مجال الفن. وتقول فيونا وير، المديرة التنفيذية لجمعية «جنجربريد» الخيرية التي تُعنى بالعائلات المؤلفة من أم أو أب فقط، إن غالبية أطفال هذه الأسر تتمنى بالفعل أن تتشارك الأم والأب في حياة أبنائهما، خصوصاً عندما لا يشكل ذلك خطراً على الأطفال (في بعض الحالات تمنع السلطات الأب - وأحياناً قليلة الأم – من رؤية الأولاد). وتضيف: «من المهم لكل الأطفال أن يكون لديهم في برنامج تربيتهم مثال يحتذى من الرجال والنساء، وهذا الأمر لا يقتصر على العائلات المؤلفة من رب أسرة وحيد (أي أم أو أب). ويجب الترحيب بالجهود التي تُشجع الرجال على لعب هذه الأدوار».