عام مضى على الانتفاضة السورية لم يتعلّم فيه الشعب شيئاً لا يعرفه عن النظام لكنه لم يكن يتصوّر أن تبلغ الوحشية حد التمثيل بجثث الأطفال والنساء كما في مجزرة كرم الزيتون في حمص، أما النظام فتعلّم أشياء كثيرة عن الشعب الذي بالغ في تجاهله والاستهانة به لكنه لم يتوقع التضحية والثبات والإصرار التي لا تزال تواجهه رغم القتل والتدمير والمجازر المبرمجة والمتعمّدة. أما الخارج، قريبه وبعيده، فروّعته العدوانية والدموية لدى حكم ساقط يصرّ على البقاء ويعتقد أنه سيواصل جرائمه ويُفلت من العقاب كما فعل دائماً. والواقع أن الخارج لم يزعج النظام، ولم يشكل له أي تهديد يقلقه، لذا أفلت قتلته ليغيروا على حمص، ثم على إدلب، ثم أينما شاء بعدهما. كانت الانتفاضة سلميةً تماماً وكان النظام يعلم ويقول إنه يواجه «عصابات مسلحة» لتبرير قمعها بالقوة. واستمرّت سلمية في معظمها، ولأنها كذلك دفعت وتدفع مزيداً من العسكريين إلى الانشقاق لأنهم ببساطة لا يريدون قتل الأهل ولا التنكيل بهم. لو احترم النظام سلميّتها لما طالبت بأكثر من الإصلاح، ولو أبدى جدية في الحوار والإجراءات الإصلاحية لما طالبت بإسقاطه، ولو حقن الدماء لما تعسكرت بداعِ مؤكد هو الدفاع عن النفس، ولما ذهبت إلى حد الاستغاثة بأي تدخل خارجي. فالعسكريون المنشقّون وذووهم ومدنهم وبلداتهم تحوّلوا أهدافاً للغزو والاضطهاد. كان معروفاً أن النظام يسعى إلى مزيد من العسكرة - ليحصل على إعادة ل «سيناريو حماه» الذي بحث عنه منذ اليوم الأول - ففي حال كهذه سيتعامل مع الوضع بموازين القوى والتفوق الناري. وبهذه الموازين العسكرية والأمنية سيتعامل بالتأكيد مع مشاريع الحلول السياسية سواء جاءت من طريق روسيا أو موفد الأممالمتحدة والجامعة العربية كوفي أنان أو أي جهة أخرى. فهو لا يريد وسطاء ولا موفدين بل ترخيصاً مفتوحاً بالإجهاز على الشعب ليخمد الانتفاضة. وحدهم الروس اقتنعوا بروايته عن «العصابات المسلحة»، وكان الوزير سيرغي لافروف واضحاً في كلمته أمام الوزراء العرب إذ قال إن ثمة فرصة لقرار في مجلس الأمن «إذا لم تدفعه رغبة في دعم سيطرة المعارضة المسلحة على المدن». ولم يقل إن المطلوب من أي قرار دولي منع النظام من ارتكاب مجازر أو تشجيعه على المزيد منها. روسيا تعتبر النظام محقاً في اعتداءاته والشعب مخطئاً في الدفاع عن نفسه. في القاهرة كان لافروف يمثّل الرئيس السوري، وفي دمشق أجلس الأخير كوفي أنان ليقصّ عليه روايته التي قدمها منذ اليوم ولم يبدّل فيها شيئاً. فهو لا يقرّ بأن لديه أزمة بل تمرداً على السلطة، ولا يعترف بوجود معارضة بل «جماعات مسلحة إرهابية» لا مجال للحوار معها. قرأ النظام إيفاد أنان إليه كمؤشر عجز دولي واعتراف ب «شرعية» الجرائم ضد الإنسانية التي اقترفها. ولذلك فهو كرر الرواية إياها ليستخلص منها «الحلول»، وهي أمنية أولاً حصدت حتى الآن أكثر من عشرة آلاف قتيل وعشرات آلاف المحتجزين والمخطوفين الذين لا يُعرف شيء عن مصيرهم، ثم سياسية وفقاً لما يناسب بقاءه من دون تغيير. وليس مؤكداً أن أنان سيتجاهل أو يصدّق هذه الرواية كلياً أو جزئياً، لكنه أُبلغ أن النظام سيتمسّك بها في التعاطي مع مهمته، سواء بالنسبة إلى مطلب «وقف العنف» أو إيصال المساعدات الإنسانية أو التسوية السياسية. أما النقاط الخمس التي اتفقت عليها الجامعة العربية وروسيا فلا شك في أن نظام دمشق اعتبرها لمصلحته. لا يهمه أن يُساوى بمعارضيه في «وقف العنف من أي مصدر كان» فهذا مصطلح مضلل كان هو من روّجه على سبيل المراوغة وتبريراً للقتل. أما «إنشاء آلية رقابة محايدة (على وقف النار) فلدى النظام خبرة في تضليلها وحرف عملها حتى لو كانت تحت إشراف الأممالمتحدة. والأكيد أن النظام رحّب بالبند القائل «لا تدخل خارجي» الذي بات هو نفسه يملّ من تكراره منذ ترجمه بأنه ترخيص علني له كي يواصل القتل بلا حساب للعواقب. ثم بند «إتاحة المساعدات الإنسانية لجميع السوريين من دون إعاقة» وهو يقع كلياً تحت أمرته واستنسابه ألا «تعوّق» الحصارات التي يفرضها هنا وهناك تمهيداً لعمليات الاقتحام والغزو. فالبند الخامس المتعلق ب «دعم جهود أنان» الذي يلحظ أن هذا المبعوث الأممي يعمل «استناداً إلى المرجعيات التي قبلتها الأممالمتحدة والجامعة العربية» وليس مؤكداً أن فهم الطرفين لهذه «المرجعيات» متطابق. لكن هذه النقاط لا تتضمن ولو مجرد إشارة إلى المسؤولية عن المجازر والدمار، وبالتالي فلا قيمة لها في مجلس الأمن طالما أنها تغفل جرائم النظام. قد يقال إن قبول روسيا ب «المرجعيات» في طيّات اتفاقها مع الجامعة يمكن أن يشكل تراجعاً جزئياً عن «الفيتو» ضد قرار لمجلس الأمن يتضمنها، أو محاولة «التفاف على الفيتو» وفقاً لنبيل العربي، لكن موسكو تربط كل شيء بموافقة دمشق التي سبق أن رفضت قرارات الجامعة - فهل بدأت موسكو تنعطف؟ سؤال مفعم بالشكوك، فالجامعة تعمل كمن لا حول له سوى اللحاق بالكاذب حتى يثبت العكس. وللتذكير فإن هذه القرارات «المرجعية» تطلب نقل صلاحيات الرئيس إلى نائبه، بعد أن يكون العنف قد توقف. لم تقل «المرجعيات» ولعلها تضمر أن الهدف هو الحفاظ على الدولة والجيش، وبالتالي سيكون على النائب أن يستند إلى طاقم يختاره لضبط الأجهزة لأنه لن يتمكّن من العمل وهو رهينة الأجهزة وآمريها الحاليين الذين لا يعترفون إلا بالحل الأمني ولا يبالون بالدولة أو بالجيش. إذا كان لروسيا نفوذ فعلاً فلا بد أن تمارسه لتفعيل هذا الحل الذي كان اقتراحها في الأساس لكن تذبذبها يكاد يجعله أشبه ب «سيناريو الأحلام». انطلاقاً من أن المبعوث الأممي يفاوض الرئيس السوري باعتباره «الدولة» فمن شأن هذا الرئيس أن يحدد قواعد اللعبة إعمالاً لمفهوم «السيادة»، وهو سيستوحي «روايته» ليدّعي: 1) أنه يكافح «الإرهاب» ولا يستطيع «وقف القتل»، 2) أنه يلاحق العسكريين المنشقّين ويعاقبهم لمخالفتهم الأوامر، 3) أنه باشر الإصلاحات المطلوبة وأنجز أخيراً الدستور الجديد، 4) وأنه لن يحاور المعارضة المرتبطة ب «الجيش السوري الحر» باعتبارها «جماعات إرهابية»... وبالطبع فالمعارضة ترفض بدورها أي حوار من «نظام الشبّيحة». وإذ يبقى «وقف القتل» مفتاح كل الحلول فليس متوقعاً أن يوافق النظام عليه، لأن فيه نهايته. أما المعارضة فتراهن مجدداً على مؤتمر إسطنبول ل «أصدقاء سورية» وهؤلاء باتوا يعملون لإدارة أزمة طويلة المدى، لذلك يجدر قصر الرهان على ثوار الداخل وبذل أقصى المستطاع لدعم صمودهم الأسطوري. * كاتب وصحافي لبناني