ابتداءً تحسن الإشارة الى ان ميزان المدفوعات يعبر عن الفرق بين مجموع ما تستحقه دولة من بقية دول العالم وبين مجموع ما يترتب عليها لبقية دول العالم... أي الفرق بين ما لها من حقوق وما عليها من ديون، فإن كان لها أكثر مما عليها، قيل ان ميزان مدفوعاتها يعبر عن فائض، وإن كان عليها أكثر مما لها قيل إنها تواجه عجزاً في ميزان مدفوعاتها. اذاً، فالعجز يعنى ان هذه الدولة مدينة لبقية دول العالم ولا بد لها من الوفاء بهذا الدين... ولكن كيف يتم لها ذلك؟ تفي الدولة بما عليها من ديون، ببيع عملتها وشراء عملات الدول الدائنة لها أو باقتراض عملة من لديهم فائض على أمل ان يكون الاقتراض من الآخرين مؤقتاً، حتى يحدث توازن ميزان المدفوعات، وذلك بدوره يعني زيادة في عرض عملتها وزيادة في الطلب على عملات الدول الدائنة. ومن ذلك ينتج انخفاض قيمة عملة الدولة المدينة بالنسبة الى عملات الدول الدائنة في الخارج إذا لم يحدث في الدول التي لديها فائض «تعقيم» لعملتها، أي منع عملتها من الارتفاع، كما سيأتي إيضاحه. أما الفائض في ميزان المدفوعات، فيعني ان الدول المدينة بحاجة الى سداد ما عليها لهذه الدولة الدائنة من ديون، ولذلك لا بد لهذه الدول من الحصول على عملة الدولة الدائنة. وهذا من شأنه زيادة الطلب على عملة تلك الدولة فتنخفض كمية المعروض منها في الداخل مما يقلل نسبة التضخم، ومما يزيد من الطلب في الخارج عليها مما يرفع من قيمتها وقوتها الشرائية، إذا لم يتغير أي شيء آخر. إجمالاً يؤدي وجود الفائض الكبير المستمر الى ارتفاع قيمة عملات الدول التي حدث فيها الفائض واستمر تراكمه. ولكن هذا لا يعني ان ارتفاع قيمة العملة دوماً أمر محمود. ولينظر من يبدو له ان ارتفاع العملة دوماً أمر مرغوب حدوثه الى الصين التي تبذل يومياً وباستمرار كل ما تستطيعه من جهود للحيلولة دون ارتفاع قيمة عملتها. نعم ينبغي تكرار هذه الحقيقة، الصين، شيخة المصدرين، والتي تملك فائضاً ضخماً في ميزان مدفوعاتها مع الولاياتالمتحدة الأميركية ودول الاتحاد الأوروبي، ودول أخرى. ونضرب مثلاً ببلادنا، فكلما ارتفعت أسعار النفط زاد ما تملكه مؤسسة النقد من العملات الأجنبية وبخاصة الدولار الأميركي عما تحتاجه السعودية من الدولارات التي قد يطلبها السعوديون والمقيمون، أو للوفاء بأي التزامات أجنبية. وفي الأعوام التي ارتفعت خلالها أسعار البترول التي رافقها ارتفاع في أسعار المواد الغذائية والإيجارات وبعض أدوات البناء، طالب الكثيرون برفع قيمة الريال ما دامت السلطات النقدية قادرة على ذلك بسبب تزايد ما تملكه السعودية من دولارات. وقد كتبت في حينه عما يترتب على رفع قيمة الريال من أضرار حتى لو بدت حينئذ مفيدة للجميع. غير أن الموضوع المراد مناقشته اليوم هو «تعقيم» العملات، وتعقيم الريال بالذات. والمقصود ب «تعقيم» العملة هو الامتناع عن تحويل كل ما تملكه دولة من عملات أجنبية الى العملة المحلية. ولو طبعت أو أصدرت مؤسسة النقد السعودي مزيداً من الريالات يوازي الزيادة في قيمة موجوداتها من العملات الأجنبية لارتفعت الكتلة النقدية، أي تسامت مستويات السيولة المتداولة في السعودية الى حد يؤدي الى ارتفاع أسعار كل ما يباع ويشترى في السعودية بنسب ضخمة غير مقبولة. والذي درجت السلطات النقدية السعودية على إجرائه، ومنذ الطفرة الأولى التي بدأت في عام 1974 واشتدت بين 1975 و 1978، هو تعقيم الريال. أي عدم زيادة ما يتداوله الناس من ريالات بمجرد ان يتوافر له ما يقابل قيمة ما يصدر من الريال من عملات أجنبية. أليس هذا ما تفعله الصين الآن؟ بل وما تفعله اليابان التي تملك فائضاً ضخماً من العملات الأجنبية وتحاول جهدها مقاومة ارتفاع الين (عملتها) حتى لا تتأثر مبيعات الصادرات اليابانية وتتصاعد إيراداتها من الآخرين. وجوهر الموضوع من السذاجة المفرطة إن لم يكن من الجهل بحقيقة ما ينبغي ان تكون عليه السياسة النقدية الرشيدة الظن بأن رفع قيمة العملة أو عدم تعقيمها هو دوماً أمر حسن مفيد. * أكاديمي سعودي.