مجموع قيمة ما تبيعه الصين لبقية دول المعمورة أكثر بكثير من قيمة كافة مشترياتها من بقية دول العالم. والأوروبيون (بمن فيهم السويسريون المحايدون) والأميركيون ومعهم الكنديون والبرازيليون واليابانيون والهنود يشتكون من أن الصين توظف اتفاقيات التجارة الدولية لمصلحتها على حساب شركائها التجاريين. كيف؟ بالدرجة الأولى لأن ما يحدد قيمة عملات الأوروبيين والأميركيين وبقية الآسيويين ممن لهم أهمية في التجارة الدولية، هي عوامل السوق من مطلوب ومعروض ومتوقع عرضه أو طلبه في المستقبل. أي أن هذه العملات «معوّمة»، أو حرفياً تسبح في فضاء أسواق المال العالمية التي تحدد قيمتها نسبة إلى بعضها البعض. أما قيمة العملة الصينية فثابتة يحدد قيمتها البنك المركزي الصيني. وقد دأب المركزي الصيني على تحديد قيمة العملة الصينية بحد أقل من المستوى الذي ستصل إليه لو حددت قيمتها الأسواق الحرة كما هو الحال بالنسبة إلى الدولار واليورو والاسترليني والين الياباني، ومعظم عملات العالم الصعبة. ولماذا تلجأ الصين إلى الإصرار على تحديد قيمة عملتها عند مستوى أدنى بكثير من المستوى الذي ستصل إليه لو حددت قيمتها الأسواق الحرة؟ السبب الأول: هو رفع أسعار ما تستورده الصين بالنسبة إلى عامة الصينيين لأنهم يحتاجون إلى مبالغ أكثر من عملتهم لدفعها للسلع والخدمات المستوردة. فلو ارتفعت قيمة العملة الصينية، فإن هذا يعني أن المستورد سيكون أرخص. فيزيد المطلوب من المستورد، وزيادة المستورد تؤدي إلى انخفاض احتياطيات الصين من العملات الأجنبية. وهذا ما تحاول الصين تفاديه. السبب الثاني: هو عكس السبب الأول، أي أن خفض تكلفة شراء صادرات الصين بالنسبة إلى المستورد الأميركي والأوروبي والآسيوي والأميركي الجنوبي، وغيرهم من المستوردين للسلع الصينية ضرورة يؤدي إلى زيادة الصادرات وتراكم الاحتياطيات من العملات الأجنبية. وسياسة مقاومة زيادة الواردات من الخارج وتشجيع تنامي الصادرات إلى الخارج تساعد في رفع مستوى فائض الميزان التجاري. وما الميزان التجاري؟ هو الفارق بين مجموع قيمة صادرات دولة من السلع والخدمات إلى بقية دول العالم ومجموع قيمة وارداتها من السلع والخدمات من بقية دول العالم. والموضوع من النواحي المحاسبية أكثر تعقيداً لأسباب كثيرة ليس هذا مكان الخوض في متاهاتها. غير أن المبدأ الأساس لمعنى ميزان المدفوعات هو كما ورد. وينبغي القول إن الميزان التجاري جزء، وليس كل، مما يسمى بميزان المدفوعات. والمقصود قوله إن الصين ومنذ ما لا يقل عن بضعة عشر سنة تتمتع بفائض تجاري هائل مكنها من امتلاك مبالغ هائلة من العملات الأجنبية التي تتدفق كنهر جار يصب في خزائن البنك المركزي الصيني. مرة أخرى لأن قيمة مجموع ما تصدره الصين يزيد على مجموع ما تستورده، فإن الفارق الذي يأتي بصورة عملات أجنبية تودع في بنك الصين المركزي. وما الضرر الذي يصيب الأوروبيين والأميركيين وبقية الآسيويين من تضخم الفائض في ميزان المدفوعات الصيني، الذي أدى إلى وجوده ابتداءً ومن ثم إلى تسامي مستواه هو تثبيت قيمة الليوان الصيني نسبة إلى بقية العملات الصعبة عند مستوى أقل مما سيصل إليه لو حدد قيمة ليوان الأسواق الحرة حتى دفعها إلى الشكوى المستمرة من سياسة الصين النقدية؟ الأضرار كثيرة وأهمها ضرران. الأول: إن استمرار زيادة الصادرات الصينية يؤدي إلى زيادة توفير فرص العمل في داخل الصين وتناقصها في أوروبا وأميركا وبقية دول العالم. فوجود المستورد بسعر أقل من المنتج محلياً معناه منافسة المنتج محلياً بتكاليف أكثر. والإنتاج بتكاليف أكثر يؤدي إما إلى تضاؤل فرص النمو، وبالتالي تضاؤل فرص توفير وظائف جديدة أو حتى الإفلاس تماماً مما يؤدي إلى زيادة نسبة البطالة. وهذا قد يتسبب ولو بعد حين، بخفض مستوى المعيشة العام وبخفض دخل حكومات الدول المستوردة من الضرائب. وانخفاض مستوى المعيشة وانخفاض دخل الحكومات يؤديان إلى انخفاض القيمة الشرائية لعملات من تزيد مجموع قيمة وارداتهم على مجموع قيمة صادراتهم. السبب الثاني: وهو عكس الأول، انه يرافق زيادة الصادرات التي لا تصاحبها زيادة في الواردات مساوية لقيمة الصادرات، زيادة فرص العمل في داخل الصين وتدنيها في داخل الدول التي تزيد فيها قيمة مجموع المستورد على مجموع قيمة المصدر. ولذلك كله فإن الأوروبيين يطالبون الصين إما بترك العملة الصينية حرة تحدد قيمتها نسبة إلى اليورو وغير اليورو عوامل السوق من معروض ومطلوب آنياً ومتوقع عرضه ومتوقع طلبه في المستقبل، أو شراء المزيد من ديون دول اليورو لتسهيل تمويل إنفاق الحكومات الأوروبية مما قد يساعد في زيادة النشاط الاقتصادي العام. والصين في نهاية المطاف تعرف تماماً أن زيادة البطالة وانخفاض مستوى معيشة مواطني دول شركائها التجاريين سيؤديان ولو بنسبة صغيرة إلى تحجيم أسواق بيع صادراتها. ولذلك فهي تطالب بشيء آخر تماماً يتعلق بتوفير آلية لتمويل الأزمات الائتمانية مهما كان حجمها، كما سيأتي بيانه في الأسبوع القادم في هذا الحيز بمشيئة الله. * أكاديمي سعودي