منذ بعيد الأزل، مر حين من الدهر لم يكن فيه كائن الإنسان، وحين اختار وأوجده البارئ، خلقه ليختار لا ليُختار عنه، وإلا لجعله كالملائكة طائعاً بجبلته وطبيعته، لقد خلقه وخيره ومنع الإكراه عليه من صِغَر الأمور حتى كبيرها، لم يُلزم عباده إلا بالبيان وحسن النداء وليس الأخذ بالنيات والنواصي والأعناق مطلقاً ليس لنا ذلك. لكل مخلوق طبيعته، وإذا ما أدركنا طبيعتنا المتمثلة في طغيان الشعور واختلاف العقول وخيرية الأنفس بالأصل الأساسي، لكان إدراكنا نقطة بداية لوضع العربة بمسارها الصحيح، يقودها الاختلاف المُحترم لا الأحادية المتنازع فيها وعليها. إنه «الإنسان» ككل مخلوق له ما يجذبه على المدى القريب والبعيد، الجذب على المدى القريب، هو جذب الظاهرة وانتشار هيكلها... وجذبه الراسي على المدى البعيد هو جذب مناقشة الفكرة لا الشخص، مهما كانت فداحة ما جاء به، حين يأتي شخص من عامة الناس وينطق بما باحت له نفسه به... من الحصافة والفطنة بمكان أن نُناقَش فكرته بكل المقاييس وليس شخصه ولا شكله ولا أصله. إن القوة الفعلية هي التي تتمثل فيها الثقة ممزوجة بالسلامة، والمبدأ الراسخ والسماحة والحلم ومكارم الأخلاق ألا تُمنع الفكرة بل تُطرح ويطرح معها نقاشها ،مع استمساك كل طرف بصداقة الآخر، وعدم طرح مزاد النيات في الأذهان. إنه ليس من الهذيان بمكان هذا التوافق «إن أضعف الضعف ليس عدم توفر المؤَن والأدوات، بل هو دفن الأفكار وغياب تبادلها»، ومنع اقتنائها، وجر وبالاً: فالإنسان حينما لا يفكر لم ولن يشعر داخلياً بالسعادة، إذ إن التفكير هو أعظم اختيار واختبار يقدمهما البارئ له، وفي رحلة بحثه يستخرج كنوزه التي تناسبه نفساً وبشراً مختلفاً بها عن غيره. وأعود أخيراً وأقرر، على رغم هذا وذاك، إلا أنه أيضاً لا يوجد على «وجه الأرض» ما هو «أقوى من الفكرة» وأسهل من تبادلها، ونحن أمام هذا مخيرون، ما بين عدم المرونة والتجاهل والهجوم، وما بين القوة الفكرية والنقاش الراقي على الأرض. «أنموذجيتنا لن يراها «المسلم العالمي» في مبانينا، بل في طريقة تعاطينا مع بعضنا البعض». [email protected]