يقترن دائماً الإصلاح السياسي ولاجتماعي بالإصلاح الفكري، بل إن المعهود هو تقدم الإصلاح الفكري كتوطئة لتحقيق الإصلاحات الشاملة التي تتطلع إليها الحكومات العادلة والشعوب الطموحة على حد سواء! لا اختلاف على أن المؤرخين يعتمدون رواية الأخبار دون التحقق من إمكانية حدوثها أو عقلانية تراتبها، وفي هذا يقول فولتير: لو أن المؤرخين أعملوا العقل النقدي فيما يدونون لامتنعوا عن تسويد كثير من الصحائف. ولعبد الله العروي رأي يؤيد هذا، ولكنه يرى أن نقد التاريخ مرحلة لاحقة على تدوينه، ولرانكه مقولة مهمة في نقد الموروث فهو يقول: «يبدأ العلم المعقول بنقد التقليد الموروث». إصلاح كثير من جوانب حياتنا مرتبط ارتباطاً وثيقاً بما نعتقده من أحكام تلقائية كما يسميها جون سيرول، لا نجتهد كثيراً في مراجعتها والنظر في دلائلها وإلا لصدقنا مقولة الجاحظ الذي قال: «دلائل الأمور أشد تثبيتاً من شهادات الرجال». لا ينكر الطبري ولا ابن خلدون أنهما دونا ماروي لهما ولم يكن من مهامهما التحقق من إمكانية حدوث الواقعة التاريخية، هذا يدفعنا للنظر مجدداً للموروث على أنه مدون ليس مقدس عدا ما تعهد الله سبحانه بحفظه. حركة التاريخ، حركة تشبه الناس الذين يشكلون أحداثه، هو موج متواتر له دفع الماء وله حينا جمود الصخور، يمور فجأة فيتحد ماؤه بصخوره ليأتي هادراً لا يعترف بدلائل الأمور ولا شهادات الرجال. الإصلاح الفكري ينقض، ينقد، يعيد ترتيب الأوراق وفق العقل والعلم والمنهج الذي يبقي العلم الراسخ الذي يساند حركة التاريخ ولا يقف في وجهها فتلقيه بعيداً. إنني أتوق لإعادة نظر في تعاطينا مع الموروث وفتح باب النقد والنقض، باعتبار أن هذا يؤسس لإصلاح فكري يعلي من قيمة العقل الذي ظل أسيراً للنقل. أتمنى أن نعلم أولادنا وبناتنا تجنب الرضوخ للأحكام التلقائية، بل ندربهم على مرحلة جديدة نستثمر فيها هبة العقل الذي ميز الله الإنسان بها عن سائر المخلوقات.