للتكيف مع موسيقى الحرب شروط يصعب على صانعي غيوم السلام التزامها، لذلك اصطحب محمد (25 سنة) عوده قاصداً وجهة السوريين الأولى، تركيا. ولمّا ضاقت عليه فرص العمل في إسطنبول، افترش محمد إحدى زوايا شارع الاستقلال، وبدأ عزف الموسيقى للسياح، فالتقت ألحانه مع موسيقى آلة الكمان التي يعزف عليها وسيم، وتآلفت الآلتان مع تنهيدات الموسيقى الصادرة من قانون حازم، لتكتمل فتنة الألحان عندما انضمت إليها موسيقى آلة الإيقاع... إذاً لم يكن محمد وحيداً في الاستقلال، فثلاثة عازفين سوريين غيره كانوا يطلقون في الشارع نفسه ألحاناً تناشد الحياة ألا تدير لهم ظهرها بعد أن لحقوا بها إلى تركيا. قرر الموسيقيون أن يتّحدوا في فرقة واحدة، غير آبهين بالانتماءات السياسية التي فرقتهم في وطنهم. لذلك نظموا موسيقاهم تحت اسم فرقة «حاجز»، وبدأوا عزف الموسيقى العربية في الشارع الأشهر في إسطنبول الذي لم يسبق له أن كان على موعد مع التراث الموسيقي العربي. يكره عازف العود محمد العنف والدماء، ويتمنى أن يتوقف السوريون عن القتال قليلاً للاستماع إلى موسيقى الحياة. هكذا يقول وهو ممسك بعوده الذي يصفه بأنه سلاحه المرفوع دائماً في وجه الحزن. وعلى رغم أن محمد ودع أخاه الأصغر بعد أن استشهد عن سن 15 سنة تحت التعذيب في أحد سجون الأمن السوري، فإنه يستعين بتعويذة موسيقى العود لسد الطرق في وجه الحقد خشية أن يتسلل إلى قلبه، فيفسد صفاء أنغامه، مراهناً على السوري الطيب. هكذا يتحايل محمد على غضبه من قاتلي أخيه، فبين صفوف الطرفين المتقاتلين سوريون طيبون، وهؤلاء لا بد أن ينتصروا في النهاية، لذلك يخطط محمد وزملاؤه لرفع العلمين السوريين خلال عزفهم في الاستقلال، علَّ موسيقاهم تعيد حياكة خيوط المحبة في نفوس شعب أنهكه الكره. يندهش السياح عندما يعلمون بجنسية موسيقيي الاستقلال (كما يسميهم الأتراك)، فالمتسولون السوريون طبعوا اللاجئ بختم سيئ السمعة، ولذلك يصر موسيقيو فرقة «حاجز» على ذكر هويتهم، وكأنهم يقولون للأفواه التي تُفتح من الدهشة نعم نحن من سورية، من حيث تُحرق أجساد الأطفال، ويموت الشباب في سجون الظلام، ولكننا شعبٌ ما زال قادراً على الحلم، وإن كان صعب المنال. في كل يوم يختار الموسيقيون، لوناً من التراث الموسيقي العربي لعزفه في شارع استقبل أهم الفرق الموسيقية العالمية، وهجرته الموسيقى العربية، آملين بأن تصنع موسيقاهم سفن سلام يرسلونها إلى وطن ودعوه ويئسوا من أمل العودة إليه. فالسفن ارتبطت أخيراً في الوعي السوري بالموت غرقاً، في سبيل الحلم الأوروبي. يعزف كل منهم، ألحاناً تعكس صدى موسيقى المدن السورية قبل أن يحتل الحرب مجالها السمعي والبصري، لذلك إن استوقفتك في شارع الاستقلال موسيقى تهب من أنغامها رياح حلب ودمشق واللاذقية وحمص، لا تتجاهل النداء، أنصت جيداً، وتمعن في ما تريد تلك الأنغام قوله لك، لأنك تستمع إلى موسيقى شباب حطمت الحرب أحلامهم، فهربوا إلى حيث يمكن الموسيقى أن تؤمن لهم العيش بسلام وكرامة بعيداً عن ضجيج القذائف والانفجارات. ويبدو أن رواد الاستقلال تحسسوا سر موسيقى يعزفها شباب بلا وطن وبلا أحلام، لذلك ذاع صيت الفرقة السورية بينهم، وصارت مطلوبة من مقاهٍ تركية يقصدها زبائن لا يفهون معاني كلمات فرقة «حاجز» بل تستهويهم غرابة الألحان الآتية من مكان بعيد.