الموقع الجغرافي يؤكد أن المكان هو المكان. سكانه يتلقون مراسلاتهم على العنوان نفسه، وعدد من أجهزة الدولة الحيوية قابع في مكانه. صحيح أن المعالم تغيرت، والوجوه تبدلت، وصحيح أن «الصينية» الخضراء باتت صحراء قفراء، وصحيح أن العلم الذي غرسه أحدهم أعلى إشارة المرور الشاهقة ما زال يرفرف، لكنها رفرفة أقرب إلى رفرفة الطير المصاب. الشاب الجالس على المقعد البلاستيكي ذي الأرجل الأربعة، يمسك بالرجل الرابعة ملوحاً بها في الهواء، بينما يرتشف كوب الشاي باليد الأخرى. يبدو أنه يدلي بحديث لصحافي أجنبي يجلس أمامه ويدوّن كلماته بحرص شديد. العصابة المثبتة على إحدى عينيه تدل على أنه من مصابي الثورة، أو على الأقل هكذا يُعرِّف نفسه في الميدان. ميدان التحرير 2012 هو نصف الكوب الفارغ من «ثورة 25 يناير»، الذي تراه وتعيشه جموع المصريين هذه الأيام. راح الثوار، وبقي البلطجية. راحت عبارات العيش والحرية والعدالة الاجتماعية، وبقيت عبارات السب بالأب والأم والعم والخال. راح المتبرعون بساندوتشات الجبن وزجاجات المياه، وبقي «جيفارا» خبير الكبدة الاسكندراني في أوقات العمل الرسمية واختصاصي فضِّ المعارك واختلاق المشاحنات بالمطاوي والسنج في أوقات الفراغ. تفريغ الميدان من محتواه الثوري بلغ أقصاه هذه الأيام. سائق الباص العام الذي عادة ما يعتمد على حجم مركبته الضخم وأسلوبه الفج في القيادة لترهيب من حوله وإفساح الطريق يتحول إلى حمل وديع في قلب الميدان. الصبي الذي يقفز من محل إقامته في خيمة في منتصف الميدان لينظم المرور قادر على أن يحوّل السائق المفترس إلى قطة لا حول لها أو قوة. فمطواة «قرن الغزال» المتدلية من جيبه لا تدع مجالاً لمناقشته في أسلوب تنظيمه للمرور. أما السيارات الصغيرة، فيحاول سائقوها قدر المستطاع تجنب اجتياز الميدان إلا للضرورة القصوى. ورغم أن الضرورات تبيح المحظورات، فإن تعريف الضرورات في ميدان التحرير في العام 2012 يختلف كل الاختلاف عنها في 2011، فمن بيات في الميدان اعتراضاً على الظلم والفساد إلى إقامة كاملة فيه ببرنامج ترفيهي وجلسات سمر، مع قضاء الحاجة إما على قارعة الطريق أو عند مدخل محطة مترو الأنفاق. الرائحة الكريهة التي باتت تغلف جوانب الميدان صارت تذكرة قاسية لما آل إليه وضع الثورة والثوار، بين أمس نُعِتت فيه انتفاضة الشباب ومعهم الشعب ب «الثورة الأطهر والأكثر سلمية في التاريخ»، وبين اليوم بهذه الهجمة الشرسة من قبل المشردين والبلطجية على الميدان. ورغم أن أطلال خيام المعتصمين المتبقية ما زالت تحمل لافتات تعكس مبادئ ثورية، فإن أصحابها أبعد ما يكونون من ذلك. أحد الواقفين أمام خيمة «مصابي الثورة» لم يجد حرجاً من التسول باسم الشهداء والمصابين. ومن التسول إلى حوادث السرقة بالإكراه التي باتت سمة من سمات الميدان في وضح النهار والتي جعلت من عملية المرور عبره مشياً على الأقدام أشبه بالعملية الانتحارية. «العملية الانتحارية اليوم كانت بالأمس القريب متعة أقرب ما تكون إلى الرحلة السياحية الممتعة. كان السياح والمصريون على حد سواء يتوافدون للتمتع بالميدان الذي اعتبره العالم رمزاً للحرية والرقي والتحضر، إلى أن تم اختطافه تدريجاً من قبل مجموعات من البلطجية»، يقول محمد غنام الذي يعمل في أحد المحلات المطلة على الميدان، ثم يخفض صوته، وهو يشير بخوف إلى سكين يمسك به صبي من المقيمين في الميدان، ويقول: «بات هذا مشهداً طبيعياً». لكن من غير الطبيعي السكوت على ما يحدث في الميدان. الصحافة الأجنبية التي نعتته قبل عام ب «معقل الحرية وصوت الشعب» تصفه اليوم ب «بؤرة صراع» مرة و «رمز لثورة أوشكت على الإجهاض» مرة أخرى، لكن تبقى الحقيقة المُرّة، وهي أن ميدان التحرير بات انعكاساً لثورة ترجمت حلم شعب في 2011 وتحول كابوساً في 2012.