كلاهما جاء ثائراً، وكلاهما استقر في تلك البقعة مناضلاً، وكلاهما أصر على الاستمرار الأول مصاباً والثاني معالجاً. وعلى رغم انتهاء الفعالية الرئيسية التي دفعت بكليهما إلى الميدان الأشهر في العالم، ميدان التحرير، ما زالا يترددان عليه بين الحين والآخر. صحيح أن الأول لملم جروحه ولم يعد مصاباً، والثاني لملم أدواته ومعداته البدائية التي بدت في حينها غاية المنى والأمل، في ظلّ ثورة دوّت أصداؤها في العالم، إلاّ أن علاقة ما تحوّلت وصارت مزمنة، تجمع بينهما. هما «طبيب التحرير»، و «ثائره» الذي كان مصاباً بالأمس وصار متعافياً اليوم، لكنه يعلم علم اليقين أن الظروف والأوضاع غير المستقرة حكمت عليه أن يكون «مصاباً تحت الطلب»، وهو راضٍ بذلك، بخاصة أنه على يقين تام بأن الطرف الآخر من المعادلة سيكون هناك ليسعفه في الوقت المناسب. فرق كبير بين عشرات اللوحات المشرفة على الميدان التحرير من شرفات بناياته، والتي تتباهى بدكتور فلان الذي يحمل شهادتين في الطب من أرقى جامعات بريطانيا، ودكتور علان الحائز على دكتوراه أميركية وشهادتي ديبلوم فرنسيتين وغيرها، والتي تحمل تحذيراً بأن «الحجز المسبق ضرورة» لنيل بركة الطبيب، وبين العيادات القماشية التي تُنصب في صينية الميدان، والتي أصبحت السيطرة عليها مثار تناحر بين الأحزاب السياسية والتيارات الدينية والقوى الرسمية. دكتوراه في الحماسة ففي تلك الخيام حيث تداوى آلاف الجرحى أيام الثورة الأولى، وحيث لفظ مئات المصابين أنفاسهم الأخيرة، تتنافس نوعية أخرى من الأطباء لخدمة المرضى. ليسوا أطباء مخضرمين يحسبون دقيقة الكشف بالدولار، ولا يقيسون عدد الكلمات التي تخرج من أفواههم للمريض وأهله. بل هم أطباء شباب لم يمضِ على تخرّجهم إلاّ سنوات، وربما أشهر قليلة فقط. لكنهم يحملون مع شهادات البكالوريوس في الطب والجراحة درجة الدكتوراه في الحماسة والرغبة في الحرية والتغيير والعدالة الاجتماعية، وهو ما يعني أنّهم ومرضاهم اجتمعوا على غاية ثورية مصرية واحدة في قلب ميدان التحرير. ومن قلب ميدان التحرير، وتحديداً قبل تسعة أشهر وبعد ساعات من تحوّل تظاهرة يوم 25 يناير الشبابية إلى ثورة مصرية شعبية، كان هناك ما لا يقل عن عشرة مستشفيات ميدانية في داخل خيام متناثرة في أرجاء الميدان. مجموعات الأطباء التي ظلّت طيلة 18 يوماً تضمد جروح الثوار وتحاول إنقاذ حياة الشهداء تحوّلت في ما بعد إلى ما يشبه تنظيم يحوي نحو 180 طبيباً بالإضافة إلى عدد كبير من المسعفين ممن أقاموا في الميدان على مدى الأيام ال18. المثير أن الغالبية العظمى من أصحاب المحلات في الميدان وباعته المتجوّلين منحوهم لقب «دكاترة الميدان»، ووصفهم السكان ب «الأطباء الثوار» وكانوا ضمن من نزلوا إلى الميدان يوم 25 كانون الثاني (يناير) الماضي كشباب راغب في التغيير، إلاّ أن تطور الأمور بسرعة استوجب أن يجمعوا بين دورهم كثوار وعملهم في مجال الطب. هذا الدور المزدوج الذي لعبه أبطال مستشفيات التحرير الميدانية أطلق العنان لكم كبير من المخزون الإنساني والاجتماعي والسياسي وكذلك الاقتصادي. الاستغاثات التي كانت تنبع من قلب الميدان بحدوث إصابات في شارع محمد محمود المطل على الميدان أو في ميدان عبد المنعم رياض المتاخم له أسفرت عن سرعة تكوين شبكات تواصل واتصال جمعت بين أطباء الميدان حيث تمّ ترتيب وضع خيامهم بشكل متناثر بطريقة تغطي أرجاء المنطقة قدر الإمكان. تهريب المعدات الطبية ومع مرور الأيام وزيادة العنف المستخدم من قبل الأمن في قمع المتظاهرين بدأت الشبكة تنمو وتتسع لتشمل تلقي التبرعات من خارج الميدان، والمهرّبة إلى الداخل على هيئة مضادات حيوية وقطن ومطهرات وغيرها. وتقول نسمة (20 سنة): «كنّا (الفتيات) نخبئ المعدات الطبية في ملابسنا لتهريبها إلى داخل الميدان وبخاصة بعد أن مُنع زملاؤنا من حمل معدات طبية ومأكولات إلى هناك». وتضيف: «كان جيراني وأهلي وأصدقائي يحملون كميات كبيرة من الأدوية لأنقلها إلى مستشفيات التحرير رغبة منهم في المساعدة، حتى بواب (حارس) عمارتنا أعطاني خمسة جنيهات لأشتري بها قطناً للمصابين... الكل ساعد بطريقته وكانت صيدليات التحرير الميدانية متخمة بالأدوية والمعدات التي تبرع بها المصريون في وقت قصير جداً». ويبدو أن الوقت كان من أبرز اللاعبين على الساحة الطبية في التحرير. وتقول الدكتورة منال ثروت (26 سنة)، التي ظلت في الميدان طيلة أيام الثورة، إن «السبب الرئيسي لانتعاش مستشفيات التحرير الميدانية، التي بدأت بدائية بتجهيزاتها المتواضعة وانتهت متقدمة إلى درجة وجود غرفة عمليات مصغرة، هو رفض المستشفيات المحيطة إرسال سيارات إسعاف لنقل المصابين إليها. ورفض إداراتها استقبال المصابين الذين كانوا يصلون إليها في سيارات المواطنين العاديين، وهو ما دفع العديد من الأطباء الشباب العاملين في تلك المستشفيات إلى التوجه فوراً بأنفسهم إلى الميدان للقيام بعملهم الذي منعتهم إداراتهم من القيام به لأسباب سياسية». وبعيداً من السياسة التي أدى فسادها إلى بزوغ نجم ميدان التحرير أصلاً، فإن مستشفيات التحرير الميدانية حملت بين طيّات خيامها ملامح إنسانية غاية في الروعة. باسم (22 سنة) كان ممن شاركوا في يوم 28 كانون ثاني (يناير) 2011، وكان كذلك من بين من أصيبوا بالاختناق وبعض الجروح، يقول: «نقلني أصدقائي إلى خيمة طبية في الميدان حيث تم إسعافي بسرعة مذهلة. ولأنني لم أكن في كامل وعيي ربما بفعل قنابل الغاز مع تأثير الإصابات، فلا أتذكر شكل الطبيب الذي أسعفني، ولكن صوته يرن في أذني وكأنني أسمعه الآن. كان يشد من أزري ويؤكد لي أن حظي أفضل من غيري بكثير. كما ظل يسألني عن أحدث اللافتات المرفوعة في الميدان. أعتقد أنه كان يحاول جاهداً إبقائي متيقظاً كي لا أفقد وعيي». ومصطفى لا يتذكر شكل طبيبه المعالج، لكنه يمطره يومياً بعشرات الدعوات بالصحة وطول العمر، وكذلك يفعل والداه. الأكثر شعبية ظروف العمل التي تمّ خلالها إسعاف مصطفى والآف المصابين غيره لم تكن استثنائية فقط، بل كانت طريفة ومضحكة إلى حد البكاء أحياناً. ويقول المسعف محمد كرم (33 سنة) إن «العديد من الإجراءات الطبية كانت تُجرى تحت أضواء أجهزة المحمول. كما أننا كنا نعالج ونسعف الجميع، بمن في ذلك البلطجية الذين أصيبوا في الميدان. والطريف أنه عندما هدأت الأمور بعد تنحي الرئيس السابق مبارك بدأنا نستقبل أنواعاً مختلفة من المرضى، فمنهم من جاء ليقيس ضغط الدم أو نسبة السكر لمجرد الاطمئنان على صحته العامة». ويبدو أن القدر كتب ل «دكاترة التحرير» الاستمرار في أداء مهمتهم لبعض الوقت! فكلما تجددت الأحداث الدامية في هذا الميدان الشهير باتت إجراءات تشكيل المستشفى الميداني أسرع وأكثر مهنية واستعدادية. بات الجميع يعرف مكوّنات الاستعدادات الطبية المطلوبة، والأماكن المناسبة للمستشفى، وسُبل أسرع لنقل المصابين. المؤكد أن مستشفى التحرير الميداني ليس الصرح الطبي الأكبر في مصر، وأطباؤه ليسوا الأشهر أو الأكثر ثراء، ومواعيد الحجز في عياداتهم ليست الأصعب، لكنه بات اليوم «الأكثر شعبية... والأعلى أجراً وثواباً عند الله».