انسحبت الصيدلانية الكردية ريواز ورفيقتها كلاويز، بهدوء، من متجر فاره يطل على قلعة اربيل التاريخية بعدما عجزتا عن التحقق من جودة منتج فرنسي لمعالجة البثور. بخلافهما، ظل الشاب سردار احمد يحاول إقناع صاحب المتجر بأن كريم الشعر الذي اشتراه منه قبل اسبوعين، تسبب في زيادة تساقط شعره، وأن عليه توفير ماركة عالمية أصلية لحل المشكلة. ريواز وكلاويز كانتا تبحثان عن المنتج الفرنسي للتخفيف من البثور والالتهابات التي غطت وجه كلاويز منذ ان استخدمت كريمات «مقلدة» كانت نسخة طبق الاصل عن ماركات عالمية، وما زاد في ترددهما أن صاحب المتجر عرض عليهما عبوتين من المنتج تتطابقان حتى في تاريخ الصنع وانتهاء الصلاحية، قال ان احداهما «اصلية» بسعر 28 دولاراً، والثانية «مقلدة» ب 4 دولارات فقط. أصلي أم مقلد؟ هذا السؤال هو ما يردده معظم المتبضعين في اسواق كردستان العراق حين يسألون عن أي منتج يبحثون عنه، وغالباً ما يعرض الباعة عبوتين من كل منتج بسعرين مختلفين، قد يصل الفارق بينهما الى ثلاثة او اربعة أضعاف. وهذا ما يثبت، وفق الناشط المدني ريبوار سعد الدين، أن النسبة الاعظم من المنتجات التي تملأ اسواق كردستان هي سلع رديئة غابت عنها عيون أجهزة الرقابة والسيطرة النوعية، وفاقم من خطورتها انعدام منظمات حماية المستهلك في اقليم تتجاوز حجم تبادلاته التجارية 20 بليون دولار سنوياً ويستورد نحو 98 في المئة من احتياجاته. جهات حكومية وبرلمانية وتجارية ومجتمعية متعددة، تقر بأن المنتجات ذات الجودة العالية صارت عملة نادرة في كردستان، وأن السوق باتت حكراً على منتجات مقلدة ورديئة تضخها مصانع الصينوتركيا وإيران في ظل غياب القوانين التجارية الاساسية التي تضمن حقوق المستهلك، وهو ما يتسبب بخسائر اقتصادية يقدّرها خبراء ببلايين عدة من الدولارات، الى جانب الأخطار الصحية التي تصل الى حد الاصابة بالسرطان. يعلق غفار سعد، وهو تاجر جملة في سوق شيخ الله وسط اربيل، متندراً، بأن السلع ذات المناشئ العالمية غالباً ما تدخل كردستان من طريق التهريب، فيما تدخل السلع الرديئة والمزيفة من المعابر الرسمية، فقط لأن المنتجات الاصلية لا تحمل معلومات مكتوبة باللغة العربية، على ما تشترطه تعليمات حكومة كردستان على العكس من تلك المزيفة التي حرص مستوردوها على توفير هذا الشرط الشكلي. يقول سعد إن السوق الكردستانية خالية تقريباً من وكلاء الشركات العالمية، فيما تتنافس أكثر من 20 ألف شركة و100 ألف تاجر في تغطية الطلب المحلي لأسواق كردستان التي توصف بأنها الأسرع نمواً، لكنها تفتقر الى التنظيم وتغيب عنه الرقابة الفعلية، تحت ذريعة ان اسواق كردستان هي «أسواق حرة». تمتد مشكلة انتشار المنتجات الرديئة في كردستان الى عام 1991 حينما خرج الاقليم عن سيطرة حكومة بغداد، ولم يعد يخضع للضوابط المركزية الصارمة في عمليات الاستيراد. منذ ذلك الوقت لم تتوقف اسواق كردستان عن استقبال آلاف الماركات العالمية المقلدة، وسط ثقافة استهلاكية متدنية تزداد اتساعاً مع ارتفاع القدرة الشرائية لعموم مواطني كردستان. الجاران والتنين الصيني تحتكر ثلاث دول فقط، ما يناهز 90 في المئة من السوق الكردستانية، أولها الجارة الشمالية تركيا التي تُخضع الإقليم لإرادتها اقتصادياً بتوفيرها نحو 35 في المئة من حاجاته الاساسية، وتنافسها بدرجة اقل الجارة الشرقيةايران التي تغطي بدورها نحو 25 في المئة من السوق، فيما يستحوذ التنين الصيني على ال30 في المئة المتبقية، وهو في طريقه الى التغلغل أكثر فأكثر مع افتتاح مئات المحال التجارية التي تعرض سلعاً صينية بأسعار تقل عن ثلاثة دولارات للقطعة الواحدة. يؤكد القنصل العام التركي في أربيل محمد عاكف، أن حجم التبادل التجاري بين العراقوتركيا بلغ عام 2013 نحو 12 بليون دولار، 70 في المئة منه مع إقليم كردستان. فيما تسعى تركيا الى رفع الرقم الى 15 بليون دولار خلال العام 2014. وهو رقم مقارب لما تسعى ايران الى تحقيقه وفق وزير الاقتصاد الإيراني علي طيب نيا الذي يؤكد أن حجم التبادل التجاري العراقي- الايراني وصل حتى نهاية العام الماضي الى 12 بليون دولار، نصفه تقريباً كان مع اقليم كردستان. تتطابق الأرقام مع ما تقدره تقارير المنتدى الاقتصادي في كردستان والذي يقدر حجم الواردات من ايرانوتركيا بنحو 14 بليون دولار، بينما تقتصر صادرات كردستان على النفط ومصادر الطاقة ولا تزيد قيمة السلع غير النفطية عن 100 مليون دولار. تكشف تلك الأرقام حجم السلع التي تصرفها تركيا وإيران في اسواق كردستان، وطبيعة الخلل في الميزان التجاري، لكن الأخطر وفق رجل الأعمال سيار عبدالله هو نوعية تلك السلع، إذ «لا يمكن أحداً ان يقول إنها جيدة، بل من المؤكد ان أكثر من ثلثها يصنّف على انه منتج رديء جداً». مع ايرانوتركيا اللتين تفرضان حضورهما الاقتصادي جنباً الى جنب مع حضورهما السياسي في كردستان، تتغول الصين الشعبية يوماً بعد يوم في اسواق كردستان عبر إغراقها «ببضائع رديئة جداً، لكنها رخيصة جداً في الوقت ذاته»، كما يقول التاجر عمر امين بابكر الذي يكشف ان الصين تحولت في السنوات الأخيرة الى محطة رئيسة للتجار الكرد الذين يستوردون بضائع مقلدة مخصصة لأسواق كردستان، تصل قيمتها الى اربعة بلايين دولار سنوياً. يقول بابكر: «يمكن ان تجد هناك بضائع ممتازة الى جانب البضائع الرديئة، لكن اغلب التجار الكرد يفضلون استيراد المنتجات الرديئة لتحقيق اعلى معدلات الربح، مستغلين النمو الكبير في السوق المحلية». ويكشف التاجر المحلي سالار جمال، ان التقليد يطاول معظم السلع التي تلقى رواجاً في السوق الكردستانية، احياناً تُصنّع اغلفة المنتجات في تركيا او ايران ويُعبّأ المنتج المقلد في كردستان، لكن في الغالب يتم تصنيع كل ما يتعلق بالمنتج المقلد في تلك الدول قبل دخوله كردستان. يقدم جمال أمثلة على جدوى التقليد بالنسبة الى التجار المحليين، فهناك نوع من شامبو الشعر ألماني الصنع يتجاوز سعره 3 دولارات، لكن من طريق التقليد اصبح يكلف 60 سنتاً فقط، ويمكن ان يباع في الاسواق بدولارين، او حتى دولار واحد عند اصحاب العربات المتنقلة. جمال يؤكد ان اكتشاف رداءة المنتج في تجارة مساحيق التجميل والمنظفات، أصعب بكثير من المواد الغذائية التي تخضع للفحوص لمعرفة صلاحيتها للاستهلاك البشري. فالشركات المصنّعة تحرص على انتاج عبوات مطابقة تماماً للمنتج الاصلي لكنها تختلف عنها بجودة المواد المستعملة في التصنيع. الحاج قادر محمد وهو صاحب متجر كبير وسط مدينة اربيل، عرض على كاتب التحقيق عبوات من مسحوق الغسيل ماركة «فيري» حصل عليها في صفقة مربحة مع تاجر زعم انه يريد تصفية مخزنه، لكن بعد يومين فقط تبين انها مقلدة ونوعيتها رديئة وتسبب حساسية لليدين، يقول الحاج محمد إن تصميم العبوة «كان يحمل كل تفاصيل الماركة الاصلية، وعلى رغم انني تاجر قديم، لكنني تعرضت للغش، فكيف هو الحال بالمستهلك العادي؟». ينتقد حاجي قاسم، وهو تاجر توقف عن العمل منذ سنوات، ما وصفه بالفوضى التجارية التي تشهدها اسواق كردستان: «أعرف تجاراً يشترون مساحيق للبشرة مقلدة بثلاثة او اربعة دولارات ويبيعونها بسعر المنتج الاصلي الذي قد يصل ل20 دولاراً». يعقّب قاسم: «هؤلاء يعتقدون انها شطارة سوق، على رغم انها سرقة مفضوحة لا يُحاسب عليها أحد». إنتاج وفق الطلب يتحدث تاجر الجملة هيوا رحمان، عن جانب آخر من المشكلة يتعلق بتعدد شركات انتاج المادة ذاتها، وبمواصفات مختلفة، فهناك منتجات متوسطة الجودة ذات امتياز سعودي أو تركي، وهناك منتجات اقل جودة تنتجها شركات امتياز مصرية أو إماراتية، اما الصيني فتأتي جودة انتاجه وفقاً لرغبة التاجر المحلي. يضيف الى ذلك زميله غفار سعد، طبيعة تفكير المستهلك في كردستان، فهو يصر على شراء السلع الاقل ثمناً على رغم أنه يدرك ان البضائع الرديئة ستجعله يخسر صحته وماله في الوقت نفسه. يشير سعد الى أن ارتفاع معدلات الدخل في كردستان لم يغير شيئاً من ثقافة الاستهلاك، وحتى في ظل معدلات نمو سنوية تتجاوز 9 في المئة وما يرافقها من تطور عمراني في كردستان، فما زال مستوى التحسن في نوع وجودة المواد المستوردة «محدوداً جداً». سركوت خليل الذي يعمل في انتاج السيراميك، يبدي نقمته من السياسات الحكومية التي اخرجت الانتاج المحلي من المنافسة، فهناك قرابة 21 ألف شركة وأكثر من 100 ألف تاجر كردستاني منشغلون بتصريف بضائع الدول المجاورة في السوق الكردستانية، مقابل نحو ألفي معمل محلي صغير مهددة بالإفلاس. ووفقاً لإحصاءات اتحاد مستوردي ومصدري كردستان، ينتهي اكثر من 70 في المئة من عائدات الاقليم المالية البالغة 12 بليون دولار سنوياً، في دول الجوار، يضاف اليها ما تستورده مؤسسات الدولة والبضائع التي تدخل الى الاقليم من باقي محافظاتالعراق. بلايين مهدورة ينقل الدكتور هاشم زيباري المتخصص بالتجارة الدولية، صورة سوداء لحقيقة الأداء التجاري في كردستان، فهو يعتقد أن ما يحدث من فوضى تجارية يحقق «نزيفاً كبيراً للعملة الصعبة»، والموضوع لا يتعلق بالأخطار الصحية للسلع الرديئة فقط، بل بالخسائر المالية التي ربما تتجاوز بلايين الدولارات سنوياً. زيباري يشرح فكرته بأن «كل بضاعة لا تحقق الهدف من شرائها، تمثل هدراً، وهذا يبدأ من قلم الرصاص السيئ الذي يكلف بضعة سنتات مروراً بالمنظفات ومساحيق التجميل وانتهاء بالاجهزة الكهربائية والالكترونية التي تكلف مئات أو آلاف الدولارات». يعقب زيباري: «هذه الخسائر غير المنظورة تكلف الدولة مبالغ طائلة قد تكفي لتأسيس مئات من المشاريع الانتاجية سنوياً». وعلى رغم غياب الأرقام الدقيقة لحجم الخسائر، كما يرى الدكتور زيباري، لكن بحسبة بسيطة يمكن أن نعرف أن السوق الكردستاني الذي تدخله سلع رديئة وتالفة تتجاوز 33 في المئة من مجموع استيراداته، يخسر وفق ما يقدره خبراء كردستانيون ما قيمته ثلاثة بلايين دولار سنوياً، فيما لا تخلو النسبة المتبقية من خسائر مضافة باعتبار انها ليست بالجودة المطلوبة. «اي كلام على الماركات العالمية والبضاعة الجيدة كذبة» يقول (ا ج)، وهو موظف في معبر ابراهيم الخليل الحدودي مع تركيا، (ا ج) يشكك في قدرة السيطرة النوعية ب «إمكاناتها المحدودة» على منع دخول البضائع الرديئة. ففي بعض الايام تدخل اكثر من ألف مادة صناعية ومن المستحيل فحصها والتحقق من جودتها في ظل غياب المختبرات اللازمة والكوادر المدربة. وفيما تخضع المواد الغذائية في المعابر للفحص من جانب دوائر تابعة للمؤسسات الصحية والزراعية، فإن مواد «الكوزماتيك» من ماكياج ومساحيق تجميل ومنظفات بشرة وعطور، تخضع فقط للتدقيق في تاريخ الصلاحية وشهادة المنشأ والشركة الفاحصة، «ويندر ان يتم فحص مادة على رغم ان هذا من صميم عمل جهاز السيطرة النوعية»، يعقب (ا ج) مشككاً بفاعلية أداء شركتين أجنبيتين تم التعاقد معهما لفحص السلع الواردة الى الاقليم. زميله (س غ) يعتقد أن عمليات الفحص التي تجرى في معبر الخليل «شكلية»، بدليل استفحال ظاهرة المواد المغشوشة في السوق الكردستانية. وهو ما يؤكده عدد من تجار الجملة الذين تحدث معهم كاتب التحقيق، بينهم رزكار احمد، فهؤلاء جميعاً يقرون بأن معظم منتجات «الكوزماتيك» التي يستوردونها لا تخضع لفحص حقيقي، بل تكتفي الشركة الفاحصة بالمطالبة بشهادة المنشأ والفواتير التي تحدد نوعية البضاعة وكمياتها، وبعدها تمنح الشركات المنتجة شهادة الصلاحية. على المنوال ذاته، تكتفي السيطرة النوعية بفحص المنتجات التي لا تحتاج الى شهادة الشركة الفاحصة، مثل المنظفات المنزلية ومساحيق تنظيف الأواني والملابس والصابون، لكن الفحوصات، كما يكشف (س غ) لا تتعدى التركيز على مدة صلاحية المادة وعدم تجاوز بعض المكونات التي قد تشكل خطراً على الصحة النسبة المحددة لها، من دون التحقق مطلقاً من مطابقة التراكيب الموجودة في المنتج مع النسب المدونة على الغلاف. معابر غير رسمية وتهريب المدير السابق لهيئة السيطرة النوعية في إقليم كردستان مؤيد عبدالرحمن، أرجع انتشار السلع الرديئة في اسواق كردستان الى تنامي ظاهرة التهريب عبر المعابر الحدودية أو دخولها من باقي مناطق العراق، لكنه كشف عن وجود «معابر غير رسمية» تدخل منها البضائع من دون خضوعها للفحص. عبدالرحمن يؤكد ان المواد التي تدخل كردستان من المعابر الحدودية الرسمية قد تخضع للفحوص العادية، لكن من غير الممكن فحص المواد التي تدخل من ايران عبر ستة معابر غير رسمية لا وجود للسيطرة النوعية فيها مطلقاً، على رغم انها تستقبل مئات الشحنات المستوردة يومياً. الرئيس الجديد لهيئة التقييس والسيطرة النوعية، الدكتور صباح توما المالح، يخالف الرئيس السابق للهيئة ومعظم التجار والمعنيين، فهو يرى أن لدى الهيئة اجهزة جيدة للفحص وكوادر كافية «ولا مشكلة ابداً في الموازنة المخصصة لعمل الهيئة». يعتقد المالح أن وجود السلع الرديئة في أسواق كردستان «ليس مسؤولية الهيئة»، كما أن البرنامج الذي تعمل وفقه الشركتان الفاحصتان هو أحد البرامج العالمية لفحص السلع وإصدار الشهادات من طرف ثالث محايد. وتعليقاً على إجماع التجار وموظفي الجمارك الذين التقاهم كاتب التحقيق على عدم وجود عمليات فحص حقيقية لمواد «الكوزماتيك»، قال الدكتور المالح إن هذا «غير صحيح، فهناك برنامج دقيق لفحص النماذج التي ترد الى الهيئة من مواد «الكوزماتيك» في المنافذ الحدودية». لا ينفي المالح أو يؤكد وجود معابر غير رسمية مع ايران غير خاضعة للسيطرة النوعية، مكتفياً بالقول ان كل المنافذ الحدودية «هي من اختصاص دائرة الجمارك وليس السيطرة النوعية». لا شيء يتغير على مقربة من عربة صغيرة مركونة على رصيف سوق شعبي في دهوك، احتشد بعض المارة لاقتناء مجموعة من العطور «الفرنسية المنشأ» عرضها صاحبها بسعر اربعة دولارات فقط للقطعة الواحدة، بينهم، وقف الموظف الحكومي كاميران سعدي متردداً بين الاستجابة لإلحاح زوجته بشراء عبوات عدة قبل نفاد البضاعة، وبين معرفته سلفاً بأن البضاعة لا تعدو ان تكون مجرد «عطور مزيفة» استوردها تجار جشعون من احدى دول الجوار. على خلفية ذلك المشهد الذي يتكرر يومياً في أسواق كردستان، يستبعد خليل أحمد، الموظف في احد المعابر الحدودية، إيجاد حل قريب «لهذه الكارثة» يمكن أن يجنّب سكان الإقليم الأخطار الصحية ويوقف هدر بلايين الدولارات من وارداته سنوياً، في ظل العجز الذي تعانيه دوائر السيطرة النوعية، وقدم القوانين المتبعة، واستمرار وجود المعابر غير الرسمية وعمليات التهريب عبر الحدود. * أُنجز هذا التحقيق بدعم من شبكة الصحافة الاستقصائية العراقية (نيريج) وبإشراف سامان نوح ومحمد الربيعي.