برسمها ملامح عالم جديد، تعيد الثورات فرز القوى الاجتماعية والسياسية وتركيبتها وتقدم تعريفات ومفاهيم تختلف عما ساد الواقع والفكر طوال الحقبات السابقة لها. كذلك تفعل الثورات العربية. وتمحو الأحداث ممارسات وقناعات وتستقبل أخرى أو تمهد الطريق لظواهر غير مألوفة في العالم القديم. وفي العهد العربي الطالع، بدت زوايا جديدة للقضية الفلسطينية ولكل الصراع العربي –الإسرائيلي. وبعد عقود سبعة من تكرار أن قضية فلسطين هي "قضية العرب المركزية"، جاءت الثورات تؤكد أن أنظمة العرب استغلت المأساة الفلسطينية إلى حدود الابتذال والفجور. مثال على ذلك وقفات الفلسطينيين وبيانات مثقفيهم الرافضة إدراج اسم بلدهم المحتل في سياق القمع الذي يمارسه النظام السوري ضد مواطنيه. والحال أن الثورة السورية، بتركيزها على الحرية ورفض الاستعباد المؤبد للشعب السوري من قبل نظام يمتطي قضية فلسطين منذ الستينات، تكشف المدى الذي بلغه حكم البعث بصيغته العائلية –المافيوية في القطيعة بين الكلمات ومعانيها. بين فلسطين وبين العمل على رفع الاحتلال عنها. ويبدو كلام المتحدثين باسم النظام السوري عن المؤامرة العالمية التي تستهدفه بسبب دوره في مقاومة الاحتلال الإسرائيلي والتمدد الإمبريالي في المنطقة، من نوع المزاح السمج الذي يُذَكّر فوراً بأن السبب الأول (العلني) لاستيلاء حافظ الأسد على السلطة هو خلافه مع رفاقه حول نزعتهم "المغامرة" التي حملتهم على دفع الجيش السوري إلى داخل الأراضي الأردنية لمساندة الثورة الفلسطينية أثناء معارك أيلول (سبتمبر) 1970. وكرت بعد ذلك الإجراءات والأعمال التي قامت بها السلطة السورية لجعل القضية الفلسطينية ورقة للمناورة وتحسين الموقع التفاوضي. وذهب آلاف الفلسطينيين ضحايا هذا النهج المستمر حتى اليوم وسلاحه الرئيس المزايدة بالدم الفلسطيني. وسارت دول وأحزاب كثيرة في نهج استغلال القضية والمقاومة وفلسطين، لتحقيق مصالحها، في وقت كان الاستيطان يقضم الأرض الفلسطينية. الجانب الدموي من العلاقة السورية –الفلسطينية لم يكن غير أداة استغلها الرئيسان السوريان السابق والحالي، من بين رؤساء وزعماء آخرين، كخط دفاع عن نظامهما. يكاد لا يظهر من يعارض هذه الفكرة. بل تجد من يدافع عنها في إطار ترتيب الأولويات أو أهمية الحفاظ على "نظام الممانعة". تغيرت الأوضاع اليوم. وحتى لو استدعى التحليل افتراضاً (غير واقعي) ببقاء حكم الأسد، فالواضح أن قدرة هذا النظام وكل ملحقاته على استغلال القضية الفلسطينية لم تعد بالكفاءة السابقة. يمكن للفظية البعثية أن تتابع ضجيجها إلى ما شاء الله على رغم كل الشتائم التي كالها النظام ووسائل إعلامه ل "العربان" ولجامعة الدول العربية ول "البدو" في الأشهر الماضية. فالانسجام مع الذات والخجل ليسا من صفات هذا النظام. لكن الغلالة الرقيقة التي كان الأسد يستخدمها لتبرير تسلطه على شعبه وعلى اللبنانيين والفلسطينيين حيث استطاع، باتت مهلهلة إلى حد لم تعد تنفع أدواته القديمة المتهالكة في ترقيع زيه القومي. لا يعني هذا، بأي شكل، أن القضية الفلسطينية هي من نسج خيال الأنظمة العربية تستغلها للبقاء في أماكنها. بل يريد هذا الكلام القول إن الشعب الفلسطيني سيتمكن، مع تحقيق الثورات العربية المزيد من الانتصارات والإنجازات، من العثور على أرضية جديدة للتعاون مع حكومات تعي حقائق المنطقة والتاريخ وتعرف معاناة الشعب الفلسطيني الحقيقية. وقد يحمل الربيع العربي روحاً جديدة إلى الفلسطينيين في رحلتهم الشاقة نحو الحرية والوطن. لقد استثمر النظام السوري طويلاً في القضية الفلسطينية. وإفلاسه العام لن يعوّض من أي مصدر.