يفاجأ من يلتقي وائل غنيم، المدير السابق للتسويق الإقليمي في شركة «غوغل»، بمدى البساطة والتواضع المسيطرين على تصرفاته. واشتهر (ربما رغماً عن إرادته) منذ سنة، بعد اكتشاف دوره في التنسيق الإلكتروني ل«ثورة 25 يناير». إذ ساهمت صفحة إلكترونية أنشأها غنيم وأدارها على موقع «فايسبوك» في إسقاط نظام الرئيس المصري السابق حسني مبارك. وكذلك ورد اسم غنيم ضمن قائمة مجلة «تايم» الأميركية للشخصيات المئة الأكثر تأثيراً عالمياً في عام 2011. في أغلب الأحيان، لا يرتدي هذا الشاب الضامر الجسد سوى حذاء رياضي مريح وبنطال جينز وقميص «تي شيرت». وعلى رغم حساسية المواضيع التي يتناولها في معظم أحاديثه، إلا أنه أبعد ما يكون عن اعتماد أسلوب استعراض العضلات لغوياً، وهو استعراض بائس لا يتورع عن اللجوء إليه كثير من المتحدثين العموميين العرب بمجرد أن يسلط الإعلام الأضواء عليهم. ثورة «الويب 2.0» جاء غنيم إلى لندن مروجاً لكتابه «ريفوليوشن 2.0» Revolution 2.0 («ثورة 2.0»). ويردّ العنوان إلى مصطلح «ويب 2.0» الذي يستعمل في الإشارة إلى الأفق المستقبلي لشبكة الإنترنت. اعتلى غنيم منصّات أبرز الصروح الفكرية البريطانية ليتحدث عن تجربته، مُجيباً بأسلوبه الهادئ على مروحة واسعة من الأسئلة. نم بعض هذه الأسئلة عن كثير من الاحترام لشخصه، فيما تضمّن بعضها نقداً لاسعاً. ورد غنيم على من اتّهمه ب «العمالة» بأن من يعتقد بأن ما جرى في ميدان التحرير العام الماضي كان بفعل قوى خارجية، فكأنه يقول بأن المصريين غير قادرين على إحداث معجزة التغيير. في بهو أحد فنادق العاصمة البريطانية، التقينا غنيم. واستمر الحديث قرابة ساعة، معظمه باللغة الإنكليزية. وتناول أموراً شملت الإنترنت والسياسة والتكنولوجيا الرقمية والإعلام الاجتماعي وشؤونه الشخصية. وبين ضغوط مواعيده والتحضيرات لها، كان يتعثر أحياناً في إيجاد ترجمة مصطلح ما إلى الإنكليزية، فيقول ما يريده بالعربية، ثم يمازحنا قائلاً: «شوف بقى حترجمها دي إزاي». وعلى رغم بشاشته، التي لا بد من أن يسأل المرء كيف يحافظ عليها بعد أن يقرأ تفاصيل المعاناة التي تعرض لها لدى اعتقاله، يخفي غنيم خلف هدوئه قضايا جادة ومشاريع عدة ينوي تنفيذها في مصر. استُهِل النقاش بسؤال عن رأيه في خبر ظهر في الصحف عن تعديل «تويتر» سياسته بخصوص حجب المحتوى، كي يتوافق مع قوانين كل بلد على حدة. وقد أعلن هذا الموقع الشهير للتدوين الإلكتروني المُصغّر هذه السياسة الجديدة قبل أيام، ما أثار كثيراً من الجدال ترافق مع حملة مقاطعة ل24 ساعة في 28 كانون الثاني (يناير) الماضي. لذا، بدا بديهياً البدء بسؤال عمّا كان سيؤول إليه مصير «ثورة 25 يناير» في حال استجاب مسؤولو «تويتر» لطلب من الحكومة المصرية السابقة بحجب محتوى ال «هاشتاغ»Hash Tag الشهير «#Jan25» وكل ما يتّصل بها. وردّ غنيم قائلاً بأن الأساس هو ألا تعمد الحكومات إلى فرض رقابة إلكترونية على القضايا العامة في بلدانها، بل عليها التعامل معها. وأشار إلى أن الأوضاع السائدة في مصر حاضراً، لم تُتِح له الإطلاع في شكل تفصيلي على سياسة «تويتر» الجديدة. ويعيد هذا الكلام إلى الذاكرة أيضاً، أن خلافاً نشأ بين محرك «غوغل» والصين قبل سنتين، وتبيّن في سياقه أن هذا المحرك يتّبع أيضاً سياسة قوامها التواؤم مع سياسة كل بلدٍ على حِدة. حتى لو غابت الإنترنت هل كانت «ثورة 25 يناير» لتحصل لو لم تكن هناك إنترنت في مصر؟ أجاب غنيم بأن من الضروري عدم تضخيم دور الإنترنت وفي الوقت نفسه عدم التقليل من تأثيرها. وكذلك يذكّر بأن عام 2010 شهدت أكبر عدد من الاعتصامات التي خرجت لأسباب اقتصادية، مما شهدته العقود الثلاثة الأخيرة. لكنه لا ينفي كذلك أنه لو جرت أحداث يوم 25 كانون الثاني قبل 20 عاماً، لكان مصير المتظاهرين السجن، مذكراً ب «ثورة العيش (الخبز)» التي وقعت في 1977، ويفيد مؤرخون بأن الرئيس الراحل أنور السادات قمعها في شكل عنيف. في السياق عينه، لا ينفي غنيم الدور الذي لعبته قنوات التلفزة الفضائية، ويشير خصوصاً إلى الأثر الذي تركته تلك المقابلة الشهيرة التي أجراها على قناة «دريم»، حين بكى لدى مشاهدة صور الضحايا. ولفت إلى أن كتاب «ثورة 2.0» يوثّق تطوّر صفحة «كُلّنا خالد سعيد» على الشبكة الافتراضية «فايسبوك». وأسّس غنيم هذه الصفحة مُعطياً إياها اسم شاب مصري قُتِل على أيدي عناصر من الشرطة المصرية في الإسكندرية عام 2010. ويرصد كتاب «ثورة 2.0» العلاقة العكسية التي تربط تنامي عدد متابعي الصفحة (وصل حاضراً إلى ما يزيد على 1.8 مليون)، بتراخي قبضة نظام حسني مبارك التي استمرت ممسكة بزمام الأمور في مصر لأكثر من 30 عاماً. لم يكن ممكناً عدم الخوض في السياسة، أثناء الحديث مع غينم. كما كان صعباً تجنب السؤال عن رأيه في سياسات دول الغرب حيال الربيع العربي، التي تفاوتت في العام الماضي في شكل لافت بحسب البلد، إذ لم تكن سياسة الغرب موحّدة تجاه ما حدث في تونس ومصر وليبيا واليمن والبحرين وسورية. ورأى غنيم أن لدى الغرب معايير مزدوجة حين يتعلق الأمر بالعالم العربي. وقال: «يحدثوننا عن القيم. يلقون علينا المحاضرات في شأنها. لكنهم يتّخذون قرارتهم بناء على مصالحهم، حتى لو كانت تتنافى مع القيم». وأضاف: «أؤمن بشكل كلي بأن الثورات هي قضايا داخلية. وأنا من المدرسة التي تقول بأن علينا أن نفعل الأمور بأنفسنا... كل ما نريده من الدول الغربية هو أن تبقى محايدة، وألا تدعم طرفاً على حساب آخر». ماذا عن الثوار في سورية، مثلاً؟ هل لهم أي أمل في مواجهة جيش نظامي، إذا لم تتدخل قوى عسكرية خارجية على غرار ما حدث في ليبيا؟ أعرب غنيم عن قناعته بأنه حين «يلجأ نظام لاستخدام العنف الجماعي وقتل الآلاف، لا يصبح بإمكانه العودة إلى الحكم». ورأى أن كُرة الثلج بدأت بالتدحرج، وسط الأنباء عن انقسام الجيش السوري الذي بات كثير من أفراده غير راضين عما يحدث في بلادهم. وأضاف: «أشعر بالأسى من أجلهم (السوريين)، في الوقت نفسه أعتزّ كثيراً بأن الثورة المصرية بقيت سلمية». ... ثورة مصر لم تُختطف تطرّق الحوار مع وائل غنيم إلى موقفه من القائلين بأن «ثورة 25 يناير» جرى «اختطافها» على يد أطراف معينين، كجماعة «الإخوان المسلمين». إذ تعتبر هذه النقطة محور تساؤلات واسعة يجرى تداولها في الغرب حاضراً، في سياق نقاش عما اذا كان «الربيع العربي» الذي يحتفل بعامه الأول، جاء لمصلحة الدول الغربية أم لا. في هذا الصدد، قال غنيم: «أعتقد بأن من هم غير سعداء حاضراً، والذين يعتقدون بأن الثورة جرى اختطافها، هم أنفسهم الذين كانوا يدعمون حسني مبارك لأكثر من 30 عاماً». وأضاف: «لقد صوّت كثيرون ل «الإخوان المسلمين» و «حزب النور» السلفي، لأنهم يتمتعون بسمعة جيدة. لقد سئم الناس الفساد وانعدام الأمانة». ثم استطرد قائلاً: «خلال خمس سنوات، لو فشل هؤلاء الأعضاء المنتخبون في إيجاد حلول لقضايا البلاد، فلن يصوّت الناس لهم مجدداً». وقال: «لم نعمل على إجبار الناس في اختياراتهم في شأن من يتولى السلطة، بل عملنا على القول للشعب المصري انه من الآن فصاعداً لدينا الصلاحية بأن نتخذ قراراتنا بأنفسنا». وأشار أيضاً إلى أنه بفضل حرية الاختيار، تتمتع مصر للمرة الأولى منذ 60 عاماً، ببرلمان منتخب ديموقراطياً». وأكّد غنيم أنه صوّت فعلياً، إلا انه تحفّظ عن ذكر الشخص أو الجهة التي أعطى صوته لها، مُشيراً إلى أنه رفض دوماً الاستجابة لمن سأله النصح بشأن المرشح الذي يجدر التصويت له. «مصرنا»: مجموعة ضغط يأخذ البعض على غنيم تجنّبه الخوض في السياسة، لدرجة انه يُفضل حتى عدم وصف نفسه ب «الناشط»! كما يأخذ عليه إصراره على عدم نسب إنجاز الثورة الى نفسه. وعلّق غنيم على هذا الأمر بأنه لم يشارك في الثورة لتحقيق مصالح شخصية، كما ان نسب الثورة الى نفسه يظلم كثيراً ممن نظّموا وعملوا على الأرض، وشاركوا في الثورة. ويُشار إلى أن كتابه «ثورة 2.0» يوثّق أيضاً مدى انشغاله بتنظيم تحركات رافقت «ثورة 25 يناير». لكن رفض غنيم، سواء أكان بغرض التواضع أم غيره، القول ان دوره كان بارزاً في الحوادث التي شهدتها مصر العام الماضي، لا يعني أن الكثيرين يعفونه من المسؤولية التي يرون انها تقع على عاتقه، بحكم انه ساهم في تغيير وضع سائد كان له حسناته وسيئاته. وشدّد غنيم على أنه لا يزال على موقفه بعدم الترشح شخصياً لمناصب السياسة، مُشيراً إلى انخراطه أخيراً في العمل على تأسيس جماعة ضغط جديدة تحمل اسم «مصرنا». ويسعى هذا «اللوبي» وفق موقعه الرسمي «مصرنا. أورغ» masrena.org للانتقال بمصر إلى الوضع الذي تفكّر به أذهان الشباب في مصر. كما يعمل غنيم حالياً كذلك على تأسيس مشروع خيري يحمل اسم «نبضات» يعمل على مكافحة الفقر عبر تشجيع التعليم والتكنولوجيا. كتاب «ريفوليوشن 2.0» في سطور شدد وائل غنيم على أن كتاب «ثورة 2.0» هو مذكراته الشخصية ورؤيته لما حدث في مصر قبل «ثورة 25 يناير 2011» وخلالها. وبيّن أن أحد دوافعه للكتابة يتمثّل في تشجيع الآخرين على أن يحذوا حذوه، فيسجّلوا تجاربهم. وأشار إلى أن هذا ربما يكون مفيداً للباحثين الذين سيأتون ليلملموا قطع الأحجية المتناثرة، بهدف تفهم ما حصل في مصر خلال «الربيع العربي». وعبر فصوله التسعة، يعرض «ثورة 2.0» ممارسات النظام المصري السابق، وحال اليأس التي عاشتها فئات في المجتمع بسبب التجاوزات التي كانت تحصل. ويستعيد رحلة غنيم، بداية من طفولته التي قضاها في المملكة العربية السعودية، ومروراً بعودته إلى مصر وولعه بعالم الإنترنت، ووصولاً إلى زواجه بأميركية وانتقاله معها للعيش في دبي بعد حصوله على وظيفة في شركة «غوغل»، التي يذكر كم كان متحمساً للعمل معها. وحصل غنيم على استراحة من العمل مع «غوغل» حاضراً، لكنه لا يعلم بعد إن كان سيعود إليها لاحقاً. ويتطرق الكتاب الى حادثة الشباب السكندري خالد سعيد. ويوثق نمو الصفحة التي حملت اسمه على «فايسبوك» وتطوّع اعضاؤها لتحميل المحتوى والمعلومات والنصائح، إضافة إلى تنسيق الاعتصامات، واتخاذ التدابير اللازمة لحماية هوايتهم من أمن الدولة. إلا أن هذه التدابير، وعلى رغم تعقيدها، لم تحمِ غنيم في نهاية الأمر. وأُلقي القبض عليه. ويقصّ تفاصيل اعتقاله. وربما تألّم البعض لدى قراءة الفقرات الخاصة بهذا الاعتقال. ويسترجع ما مرّ في ذهنه حينها، خصوصاً الشعور بتأنيب الضمير حين كان يتخيل انه قد لا يستطيع العودة الى زوجته وطفليه. جماهير بلا قائد سقط نظام مبارك وتمتّع غنيم وغيره ممن انتقدوا النظام بالحرية. لم يسع كثير منهم لمنصب سياسي. وربما لهذا السبب أُطلِق اسم «ثورة 2.0» على الكتاب. إذ يؤمن غنيم بأن ثورة مصر كانت نسخة مطورة من الثورات التي عهدها التاريخ. ففيما تمتّعت الثورات التقليدية بفريق معارض له قيادة واضحة، فإن من سمات «الثورة 2.0» كونها ثورة جماهير لا قائد لها. وأوضح غنيم أنه سعى عبر الكتاب، وقد صدر باللغة الانكليزية حتى الآن، إلى تغيير الصورة النمطية السلبية عن العرب والمسلمين، خصوصاً الصورة التي طغت عقب حوادث أيلول (سبتمبر) 2001. وأضاف: «أود ان يعلم الجميع اننا مثل غيرنا نريد الديموقراطية، ونريد ان نحسن انفسنا». وذكر غنيم ان ريع الكتاب يذهب كليّاً لدعم أهداف خيرية، عبر مشروع «نبضات»، ولمساعدة أهالي الضحايا وجرحى الثورة، ولدعم بحوث تتعلّق بالتنمية. مقتطفات تكنولوجية في سياق حديث عن الإجراءات الاحترازية التي كان يتبعها سراً خلال فترة ادارة صفحة «كلنا خالد سعيد»، خصوصاً الحذر من الفيروسات الإلكترونية التي خشي ان يرسلها أمن الدولة له، يذكر وائل غنيم في كتاب «ثورة 2.0» أن أجهزة الكومبيوتر التي تعمل بنظام «ماك أو أس» Mc OS هي أكثر أماناً، من نُظُم تشغيل «مايكروسوفت» على رغم كون الأخيرة هي الأكثر شيوعاً. من الواضح أن غنيم يميل لمنتجات «آبل» عموماً. إذ يذكر كذلك أنه كان يود ان يوثق مجريات «ثورة 25 يناير» باستخدام «آي فون»، الذي حطمته قوى الأمن المصرية في اليوم الأول من الثورة. كي لا يتم اكتشاف موقعه، إستخدم غنيم برنامج «بروكسي» يعرف باسم «تور» Tor يعمل على تغيير عنوان الكومبيوتر «آي بي آدريس» IP Address باستمرار. في أوج التحضيرات للثورة، حجب موقع «فايسبوك» صفحة «كلنا خالد سعيد» بشكل مفاجئ، الا ان الحجب لم يكن لاسباب سياسية ولا بسبب المحتوى، بل مردّه اعتماد غنيم لحساب مستعار في إدارة الصفحة. وراسل «فايسبوك» ثم وافق مسؤولو هذه الشبكة الإجتماعية على إعادة فتح الصفحة بعد ربطها بحساب مستخدم حقيقي، لكنه لم يكن وائل غنيم، بل زميلة مصرية له مقيمة في الولاياتالمتحدة وافقت على استخدام اسمها الحقيقي. يذكر كتاب «ثورة 2.0» كيف انقذت لعبة «العصافير الغاضبة» Angry Birds الشهيرة وائل من ورطة كبرى. إذ اختفى غنيم لأيام عدة. وأراد أصدقاؤه وزوجته تغيير كلمة السر في بريده الإلكتروني بحيث لا يفتح ان حاول المحققون الدخول اليه. لكنهم لم يعلموا ما هي كلمة السر في جهازه اللوحي. وجاءت الاجابة من أحد طفلي غنيم الذي حفظ كلمة السر، من وراء ظهر الجميع، لانه كان يحب لعبة «العصافير الغاضبة»، ويمارسها باستمرار على جهاز والده. وقدّم إجابات مختصرة، عن أسئلة طُرحت عليه على طريقة «ماذا يريد غنيم قوله» ل: الرئيس السابق حسني مبارك: لا شيء. المشير طنطاوي: لا شيء كذلك. «غوغل»، «تويتر» و «فايسبوك»: شكراً. زوجته وطفليه (ابنة وابن): أُقدّر زوجتي على تفهمها. لا بد من أن أفعل المزيد من أجلها ومن أجل طفليّ. شعب مصر: فخور بكم. خالد سعيد لو أنه لا يزال على قيد الحياة: قلت لنفسي في آب (أغسطس) 2011 حين بدأت محاكمة مبارك، انني كنت أتمنى أن يكون خالد سعيد لا يزال على قيد الحياة ليرى ان ما فعلناه أعطى ثماره. * صحافي ومُدوّن سعودي مقيم في لندن