هل أصبح البابا فرنسيس في مرمى نيران المنظمات الإجرامية الإيطالية بعد المواقف التي أطلقها أخيراً عندما سمّى إحداها في عقر دارها وأفتى بتحريمها ومحاربتها؟ هل تجاوز «بابا الفقراء» الخطوط الحمر المرسومة بين الفاتيكان والمافيا منذ عقود؟ وهل ستبقى مراكز النفوذ التقليدية في السدّة الباباوية مكتوفة الأيدي فيما يواصل خليفة بطرس حملته لتجريدها من مواقعها وإقصائها عن دوائر القرار؟ أسئلة كهذه تقض مضجع الدوائر الأمنية الفاتيكانية والإيطالية منذ فترة، لا سيما بعد المعلومات والمؤشرات التي تجمعت عن ارتفاع منسوب استياء المافيات الأربع الكبرى من مواقف البابا وإجراءات الفاتيكان التي من شأنها أن تقطع خيط التواصل والتواطؤ بين الكنيسة والمافيا التي تستمد من ظاهر هذه العلاقة هالة من الاحترام والمشروعية ترخي سدولاً من الخوف الاجتماعي الضروري لحماية أنشطتها. منذ تسلمه منصبه لم يهدأ هذا البابا الآتي من الأرجنتين في سعيه إلى إخراج الكنيسة الكاثوليكية من مركزيتها المفرطة وتقريبها من البقاع المترامية والفقيرة، وإلى تطهيرها من الأدران الإدارية التي تراكمت تحت سقفها منذ عقود. ولم يتردد فرنسيس منذ البداية في الإعلان بكل وضوح عن العناوين الكبرى لحبريته: كنيسة للفقراء ملتزمة وناشطة اجتماعياً ضد الظلم والفساد. وها هو بعد عام تقريباً على إمساكه بالملف المالي يقرر إقفال ثلاثة آلاف «حساب مشبوه» في مصرف الفاتيكان ويلغي أنشطته الاستثمارية ويحصر أعماله في خدمة الكنيسة. ومعروف أن هذا المصرف الذي ارتبط اسمه بفضائح مالية واغتيالات على يد المافيا كان لسنوات على لائحة البنك الدولي السوداء للمصارف المتهمة بغسل الأموال. ويعتقد أن عجز البابا السابق بنيديكتوس عن معالجة هذا الملف بسبب من المعارضة الشديدة التي واجهها داخل دوائر القرار الفاتيكانية كان من الأسباب الرئيسية التي دفعته إلى التنحي. لم تعرف الكنيسة الكاثوليكية في تاريخها الحديث خطاباً اجتماعياً ملتزماً ومتقدماً على لسان حبرها الأعظم كخطاب البابا فرنسيس الذي يثير الإعجاب بأسلوب حياته المتقشف ومواقفه الجريئة بقدر ما يثير الحفيظة والاستياء في الأوساط المستفيدة من المعادلة التي كانت سائدة حتى الآن. في الأسبوع الماضي توجه البابا فرنسيس إلى إحدى القرى في الجنوب الإيطالي حيث اغتالت مافيا الآندرانغيتا طفلاً في الثالثة من عمره وأحرقته إلى جانب جده في عملية تحذير انتقامية، ووقف أمام 200 ألف شخص مسميّاً المنظمة الإجرامية باسمها، للمرة الأولى، قائلاً: «المافيا محرومة من الله... إنها عبادة الشر ولا بد من محاربتها وإقصائها». لم يسبق لبابا أن أنزل مثل هذا العقاب، وهو الأشد عند المسيحيين، على مجرمين بشكل جماعي. المرة الوحيدة التي خرجت فيها الكنيسة عن صمتها التقليدي إزاء المافيا كانت على لسان البابا يوحنا بولس الثاني خلال زيارته جزيرة صقلية في عام 1993. ولم يتأخر رد الكوزا نوسترا بقيادة زعيمها الدموي توتو رينا آنذاك إذ عقبت الزيارة سلسلة من التفجيرات في عدد من كنائس روما، واغتيل في باليرمو أحد الكهنة الذي كان معروفاً بمناهضته العلنية للمافيا. الرد على خطاب البابا فرنسيس جاء خالياً من العنف حتى الآن عندما توقف موكب للمؤمنين في زيّاح أمام منزل زعيم الآندرانغيتا في إحدى قرى كالابريا، وأحنوا تمثال السيدة العذراء احتراماً له، علماً أنه محكوم بالسجن المؤبد بجرم الاغتيال وموضوع تحت الإقامة الجبرية لأسباب صحية. لكن العارفين برمزية الرسائل التي توجهها المافيا عادة يرجحون أن في حساباتها ثمة من تجاوز الخط الأحمر.