كتب الدكتور حامد عمار، عميد التربويين العرب، وأقدم أستاذ في الجامعات المصرية، مقالاً رائعاً نشر له في جريدة «الأهرام» في 19/1/2012، بمناسبة بلوغه الحادية والتسعين من عمره، أمدّ الله فيه، بعنوان «ويدور بي الزمان الجامعي»، يلخص الحالة العامة للجامعات في العالم العربي وليس في مصر فحسب، وينظر في المسألة التعليمية بعامة، والتعليم الجامعي بصورة خاصة، نظرات عميقة من خلال تجربته الطويلة التي تمتدّ ستة عقود، أتاحت له الفرص الكثيرة لمعرفة أحوال الجامعات من النواحي كافة، وللاطلاع على أوضاع التعليم العالي بقدر كاف من الإحاطة، وللوقوف على المشكلات التي تعترض السبيل إلى بروز الجامعات المتميزة. ويردّ الدكتور عمار تلك المشكلات التي تحدّ من انطلاق الجامعات المصرية - والجامعات العربية في شكل عام - إلى أنها «ظلت أسيرة الأوامر الفوقية وتدخلات السلطات الأعلى التي كانت قيداً على حريتها واستقلاليتها، وسادت في أجوائها كثير من القيود البيروقراطية الجامدة، مما حرمها من الاستمتاع بحريتها وطموحاتها في التطوير الذاتي». واستشهد في هذا السياق بقول للدكتور أحمد زويل «إن العقول المبدعة لا تتفاعل جيداً مع البيروقراطية». وحينما يتحدث عميد التربويين العرب عن الحالة الجامعية، وهو الخبير الممارس ويضع يده على مكمن الداء، فإنه يتوجب علينا نحن الأكاديميين المعنيين بالشأن الجامعي بصورة عامة، أن نتابع باهتمام، وأن نفكر بعمق في هذه الأوضاع التي باتت تسود جامعاتنا العربية، للوصول إلى إيجاد حلول علمية للمشكلات القائمة، التي تتفاقم بسبب عجزنا عن إصلاح التعليم الجامعي بدرجة عالية من الجدية والفعالية وإعادة صوغ رسالة الجامعات لتكون منارات مضيئة للفكر المتجدد، ومراكز للإبداع والنهضة الثقافية والبحث العلمي التي تبني مجتمع المعرفة. ومن المسلّم به ان تدهور الأوضاع العامة في مجتمع من المجتمعات، مرتبط بسوء الأحوال في الجامعات، أو لنقل بعبارة أخرى، إن هناك علاقة طردية بين فساد المجتمع وبين فساد الجامعة. فإذا كانت الحالة الأولى ناتجة من عوامل سياسية واقتصادية وإدارية كثيرة ومتداخلة، فإن الحالة الثانية ما هي إلا انعكاس للحالة الأولى من وجوه عدة. ولذلك كان إصلاح الجامعات مرتبطاً بإصلاح الأوضاع العامة من كل النواحي وعلى شتى المستويات. وإصلاح الجامعات يلخص في عبارة واحدة «إعادة صوغ رسالة الجامعة»، كما قال الدكتور حامد عمار، وكما أوصت بذلك التقارير الدولية ذات الصلة، وهو ما تتضمنه خطط العمل والاستراتيجيات لتطوير التعليم العالي التي وضعتها المنظمات المتخصصة، وبخاصة اليونسكو والإيسيسكو والألكسو، فتلك هي السبيل إلى توفير المناخ الملائم حتى تخرج الجامعة من الدوائر التقليدية، إلى الفضاء الواسع للابتكار وللإبداع وللمشاركة بلا حدود في تنمية المجتمع. وهو الأمر الذي يعني الانتقال بالجامعات من مرحلة التعليم الذي هو أشبه بالتعليب للعقول، إلى مرحلة التعليم المبدع المبتكر (بكسر الكاف) الذي ينمّي في الطالب ملكة الإبداع في مجال التخصص، ويدفع به نحو ممارسة الابتكار الذي يساهم في تطور المجتمع والنهوض به، وفي البحث عن الحلول العملية المجدية للمشاكل التي يعاني منها. بهذه النقلة النوعية، إذا ما تمت في المناخ المناسب، تصبح الجامعات مراكز للتميّز، بدلاً من أن تكون فضاء لاستيعاب عشرات الآلاف من التلاميذ القادمين من المدارس الثانوية بصورة تلقائية غير خاضعة للتصفيات الدقيقة بغرض انتقاء النخبة من التلاميذ من ذوي القدرات العالية للانخراط في التعليم الجامعي. والمشكلة أن الحكومات لا تملك أن تتخذ قرارات جريئة في هذا المجال، بحيث تفتح أبواب الجامعات فقط لذوي المواهب والملكات والقدرات الذهنية التي تخول لأصحابها الولوج إلى التعليم الجامعي، من دون أن يخل ذلك بمبدأ تكافؤ الفرص؛ لأن من لم يرق إلى المستوى الذي يسمح له بالانتساب إلى الجامعة، يمهد له السبيل للتعليم التقني والمهني والخدمي في حقول كثيرة تشتد حاجة المجتمع إليها. إن الارتقاء بمستوى أداء الجامعات لوظائفها من النواحي كافة، يحقق الهدف من الإصلاح الشامل الذي هو القاطرة إلى تطوير التنمية الشاملة المستدامة. ولكن المسألة هنا ليست معزولة عن تحقيق الإصلاحات العميقة في الحياة العامة، من خلال التغيير الشامل الخاضع للعلم وللتخطيط، والقائم على الأساس السليم وبالوسائل السليمة أيضاً. فهذا هو التغيير الذي ينفع ويثمر وتنتج منه الاستجابة الكاملة للمطالب المحقة التي تنادي بها الشعوب. وهكذا، فإن الجامعات ذات الجودة العالية التي تتبنى الإبداع فلسفةً ومنهجاً وأسلوباً، لا تخرّج موظفين فحسب، ولكنها تنتج علماء وباحثين يساهمون في تطوير الحياة وفي ازدهارها، ويصنعون التقدم بأبحاثهم واجتهاداتهم وبجهودهم التي لا تفتر وبعطاءاتهم التي لا تتوقف في التطوير والتجديد والتحديث وفي الارتقاء بالقطاعات التي يعملون فيها، لأن تحسين جودة الجامعات يفتح المجال واسعاً أمام النخبة، سواء من هيئة التدريس، أو من الطلاب، أو من الأجهزة الإدارية المشرفة على الجامعات، ليؤدي الجميع المهمات المرسومة لهم بمستوى عال من الجودة والدقة والإتقان. وبذلك فقط تتحول الجامعات والمعاهد العليا إلى مصانع للتقدم ومحاضن للأجيال التي تمتلك قدرات عالية ومعارف علمية راقية وخبرات مهنية غنية تفتح أمامها الأبواب الواسعة للولوج إلى عالم فسيح من العمل الجاد والعطاء المتميز من أجل بناء الحاضر وتطويره وصناعة المستقبل وتدبيره. * أكاديمي سعودي