يعود الإعلام المرئي اللبنانيّ اليوم إلى الواجهة، ليكون الحدث بدلاً من أن يكون المعنيّ بتغطية الحدث، ولكن هذه المرة ليس بسبب الانتماءات السياسية وانحياز المحطّات إلى قوى دون أخرى، إنما لقضية أخرى جدلية تثير النقاشات، محليّاً وعربياً، وهي تناوله علناً مواضيع ما زالت تُعتبر من المحرّمات في المنطقة. الاتجاه الرئيسيّ لهذه المواضيع مرتبط بالعلاقات الجنسية والظواهر الأخرى المرتبطة بها، مثل الشذوذ والاغتصاب والدعارة... وغيرها. وتحتكر فضائيات لبنانية اليوم في شكل شبه كامل مهمَّة نشر «الثقافة الجنسية» في العالم العربيّ، وفق التعبير الذي يستخدمه معدّو فئة البرامج التي تتخصص بالمواضيع المُشار إليها. لكن التوافق على هذه «الثقافة» وطريقة إيصالها إلى الجمهور لم يتحقّق بعد. فبعد كلّ حلقة من هذه البرامج تبدأ النقاشات الحادة ويحاول كثيرون من المسؤولين الدينيين والمدنيين وضع حدّ لهذه المواد الإعلامية، خصوصاً حين يرون أنّها تتخطّى كلّ الخطوط الحمر لتصبح أقرب إلى الوقاحة منها إلى الجرأة والرغبة في كسر المحرّمات. أبعد من المعرفة «لازم تعرف»، «أحمر بالخطّ العريض»، «شي أن أن»، «لول» «CIA»... أسماء برامج باتت أشهر من نار على علم، ليس فقط في لبنان إنما في الدول العربية المجاورة أيضاً. أما السبب فيعود إلى تطرّقها إلى المواضيع الجنسية، كلّ منها على طريقته. ففيما يهدف البرنامج الأول إلى «تقديم النصائح لحياة زوجية أفضل» كما تُعرّف «المؤسسة اللبنانية للإرسال» (إل بي سي) عنه، يخصّص برنامج «أحمر بالخطّ العريض» (على الشاشة ذاتها) حلقات لطرح قضايا حسّاسة جداً، ومنها حلقة حول «الجنس والأولاد» أو «العجز الجنسيّ». لكنّ هذين البرنامجين لم يسلما أبداً من الانتقادات المباشرة. ووفق رئيس «الهيئة الشبابية الإسلامية - المسيحية للحوار» مالك فيصل المولوي، فإن هذه الفئة من البرامج تجاوزت «القوانين اللبنانية من الناحية الأخلاقية وكذلك القيم المهنية». ويسأل: «كيف لنا أن ننشئ جيلاً مثقفاً يحمل الأخلاق والقيم الإنسانية ويتمسّك بالتعاليم السماوية في ظلّ انحطاط المستوى الثقافيّ والاجتماعيّ لتلك البرامج التي تنطوي تحت مسميات كالعلم والمعرفة وغيرها؟». يشكل رأي المولوي نموذجاً لعشرات من المسؤولين المدنيين والدينيين الذين رفعوا الصوت عالياً لرفض طرح المواضيع الجنسية بطريقة فاضحة على الشاشات اللبنانية. ولم تقف الأمور عند حدود الانتقادات فقط، إنما كان لجهاز الرقابة في الأمن العام اللبنانيّ تدخلات أيضاً، خصوصاً في ما يرتبط بحلقة «الجنس والأولاد» لتقوم المحطّة بإجراء تعديلات تتناسب مع مبدأ أنّ التلفزيون مُشاع للجميع ولا يمكن حصر تأثيراته أبداً. وعلى رغم تأكيد إدارة المحطّة أنّ الحلقة علمية الطابع وطبيّة المضمون، فإن النقاشات الحادة حولها - تماماً كما حول حلقات أخرى ومواد إعلامية من برنامج «لازم تعرف» - لم تهدأ أبداً، خصوصاً إثر استخدام كلمات وتعابير تخدش الحياء في كثير من الأحيان، بالإضافة إلى الإيحاءات التي يمكن أن تنتج من طرح بعض المواضيع التي تذهب إلى ما هو أبعد من العلاقة الجنسية بين الزوجين. تشويه صورة الكوميديا؟ أمّا الجدال الأكبر فيُثار حول البرامج الكوميدية على الشاشات اللبنانية، فخلال العامين الأخيرين تجرّدت غالبية هذه البرامج من المواد الخفيفة التي كانت تُضحك المشاهدين لتتسلّح بالنكات المتمحورة حول الجنس أحياناً بطريقة مباشرة، وأحياناً أخرى عبر اللجوء إلى الإيحاءات. وعلى رغم كلّ المطالبات الرسمية للهيئات الدينية لدى الطائفتين الإسلامية والمسيحية بوقف مثل هذه البرامج أو إعادة النظر في مضمونها لمسّها بالآداب العامة والذوق العام، فإن هذه المواد الإعلامية لا تزال تُبثّ في شكل كثيف. وكلّ البيانات المتكرّرة حول «إفساد مثل هذه البرامج للناشئة وعدم احترامها قداسة الجسد والأخلاق الحميدة»، لم تستطع أن تغيّر الاتجاه السائد في النكات التي تحدّت أكبر المرجعيات لتبقى أكثر الوسائل السهلة والسريعة لتأمين الربح الماديّ للمحطات التلفزيونية بسبب نسب المشاهدة العالية. وإذا كانت بعض المسرحيات اللبنانية اعتمدت سابقاً هذا الأسلوب الإيحائي في الكلام منذ سنوات، فهو كان حكراً على فئات معيّنة من الجمهور. أمّا اليوم، فإنّ هذه المواد الإعلامية تدخل كلّ المنازل من دون استئذان، ليس لتُضحك الكبار فقط، إنما لتؤثر في الأطفال والمراهقين الذين باتوا يجدون فيها قوتهم اليوميّ من النكات التي كان تصنيفها في اطار «البذاءة» منذ سنوات قليلة ماضية. «الحياة» حاولت الاتصال بعدد من المسؤولين عن البرامج المذكورة للوقوف على آرائهم، لكنّهم رفضوا التعليق، باعتبار أنّ هناك جدالاً واسعاً ونقاشاً مفتوحاً حول البرامج، وأن من يُعارضها سيظلّ موقفه على حاله ولو دافع المعدّون عن مضامينهم الإعلامية. وإزاء تفاقم القضية أخيراً، عقد «المجلس الوطنيّ للإعلام المرئي والمسموع» جلسات طارئة لمناقشة مضامين بعض البرامج التلفزيونية المذكورة سابقاً، باعتباره مسؤولاً عن الرقابة على المؤسسات التلفزيونية والإذاعية، وفق المادة 47 من قانون البثّ التلفزيونيّ والإذاعيّ، وأصدر تقارير مفصّلة حول البرامج ومغالطتها القوانين اللبنانية لجهة التنافس على «التهريج الجنسيّ» وعلى الترويج للتعابير النابية التي تسيء إلى الذوق العام والأخلاق العامة، خصوصاً في ما يرتبط بالبرامج الكوميدية. وتلخّص عضو «المجلس الوطنيّ للإعلام المرئي والمسموع» ريتا شرارة أبرز الاعتراضات التي توجّه إلى تلك البرامج، فتشير أولاً الى أنّ المحطّات التي تبثّ هذه البرامج لا تحترم شروط توقيت البثّ وإعادة البثّ، ما يجعل هذه المواد الإعلامية مُتاحة لمختلف الفئات العمرية وليس للكبار فقط. وتضيف شرارة ان المضمون يحمل الكثير من الأخطاء، «فإذا كان برنامج «لازم تعرف» هو النموذج لبرامج التوعية الجنسية، فإنّ مثل هذه الدروس حول العلاقات الحميمة لديها أماكنها الخاصة وليس شاشات التلفزة». وعن البرامج الكوميدية التي تستخدم الإيحاءات الجنسية، تقول إنّها تمثّل «انحداراً ما بعده انحدار». وتؤكد شرارة أنّ لهذه البرامج هدفين رئيسين: «أولاً، تحقيق الربح الماديّ على حساب القيم وسلامة العقل. وثانياً، إنشاء جيل منحلّ من كلّ القيم والأخلاقيات». وتلفت شرارة الى أنّ ل «المجلس الوطنيّ للإعلام» صلاحيات استشاريّة، لا تقريرية أو تنفيذية، ما يجعل من ملاحظاته توصيات للمحطّات التلفزيونية لا قرارات إلزامية، ما يترك هامش تحرّكها واسعاً... بالتالي يمكنه أن يلفت انتباه السلطة الإجرائية وينبهّها الى المخالفات. أما الدور الحقيقي في مواجهة ظاهرة هذه البرامج التي تتجاوز كل الخطوط الحمر فهو لوزارة الإعلام ومجلس الوزراء مجتمعاً. وتشدّد شرارة على أنّ الكلام عن هذه الحدود (أو الخطوط الحمر) ليس مسّاً بالحريّات الإعلامية إنما هو سعي للحفاظ على الإعلام المرئي في لبنان. قواعد مهنية وأخلاقية وإذا كانت القواعد الأخلاقية والمهنية لطرح مثل هذه المواضيع على الشاشات التلفزيونية لم تتبلور بعد بالنسبة إلى معدّي البرامج، خصوصاً أنّ هذه الظاهرة بدأت تتشكّل منذ نحو 3 سنوات، فإن ثمة خبراء إعلاميين عالميين عالجوا هذا الموضوع ليعيدوا توجيه الإعلام وتحديداً المحطّات التلفزيونية في إطار القضايا الحميمة. ويرى أستاذ الفلسفة والفنون في جامعة «ليدز» البريطانية ماثيو كيران في كتابه «أخلاقيات الإعلام» أنّه لتقويم أي مادة إعلامية ترتبط بالعلاقة الجنسية يجب النظر إلى مضمونها والمشاهد التي تعرضها، والسؤال الذي يُطرح عندها هو: لماذا هناك طرح لهذه المادة وكيف يأتي هذا الطرح؟ فإما تكون المادة الإعلامية تهدف إلى تغيير الأفكار وإعادة توجيهها، بالتالي يجب أن تأخذ المنحى العلميّ من دون أي مبالغة وبطريقة جديّة وواضحة غير قابلة للالتباس، أو يكون الهدف الكلام عن الجنس للمجاهرة فقط والكشف الفاضح. وإذا كانت المادة تندرج ضمن الفئة الثانية، فهي لا تسعى إلا إلى جذب الانتباه، ما يمكن أن يفقد العلاقة الحميمة قيمتها الحقيقية فيدفع الجمهور إلى التركيز على التفاصيل بدلاً من العلاقة الكلية. ويؤكد الباحث في مجال الأخلاقيات الإعلامية جو جينكينز في كتابه «قضايا أخلاقية معاصرة» أنّ التلفزيون يتحوّل أكثر فأكثر نحو المنحى التجاريّ، وكلّ ما يهمّ المستثمرين والمساهمين هو نسب المشاهدة، ما يدفع معدّي البرامج إلى استخدام المواضيع الجنسية لجذب الجمهور. لكن المشكلة في ذلك، كما يقول جينكينز، أنّ مثل هذه القضية تكون «مثل المخدرات» بالنسبة إلى المشاهدين. وهذا ما يدفع هؤلاء خلال فترة من الوقت إلى المطالبة بمزيد ورفع جرعة الجرأة. وإذا كانت بعض المحطّات التلفزيونية اللبنانية تحاول كسر الروتين اليوم عبر برامج تعتبرها جريئة وتهدف إلى كسر المحرّمات، فأي خطوات تالية يمكن توقّعها في المستقبل؟