يعود بعض الدارسين إلى مقولات الأصالة والهوية والخصوصية وسواها، في محاولة منهم لتأكيد فرادة التراث العربي الإسلامي وتميزه، منطلقين من مقولات جاهزة يكررونها على الدوام، القصد منها الوقوف بوجه الحداثة وتدفق الأفكار التي يعتبروها مجرد غزو للأمة وثقافتها. ويُخفي خطابهم الخوف من الآخر وإنجازاته المعرفية والعلمية، لذلك تراه ينهض على إيديولوجيا الحفاظ على هوية ثابتة نقية لا تشوبها شائبة، وهو خطاب ميتافيزيقي مؤسس على ثنائية الذات / الآخر، التي تفترض الذات كمركز ميتافيزيقي جامع للوجود وللعالم وللتاريخ... إلخ. وينسى دعاة الأصالة أن كل أصل يحيلنا إلى أصول أخرى غيره، إذ لا وجود لأصل بذاته، سابق سواه من الأصول، سواء في الفلسفة، أم في غيرها من المعارف، أم في التاريخ. وفي هذا السياق يحاول عبد الواحد ذنون طه، في كتابه «الأصالة والتأثير» (دار المدار الإسلامي، 2011)، تقديم أمثلة على أصالة التراث العربي الإسلامي، وتبيان مدى تأثيره على الغرب الأوروبي في شكل خاص، وذلك ضمن عدد من الدراسات والمقالات، التي تتناول عينات من الإسهامات العربية الإسلامية في علوم مختلفة، العلمية والإنسانية، ومن دون تقديم إضافة تذكر في هذا الميدان. ويبدأ المؤلف من تناول العلاقة بين الشريعة والحكمة، أي بين العقيدة المنزلة وبين معطيات العقل الطبيعي، كي يشير إلى محاولات التوفيق والتقريب بين الشريعة والفلسفة، لدى بعض الفلاسفة المسلمين، ابتداءً من الكندي (ت 260ه)، ومروراً بكل من الفارابي (ت 339ه)، وابن سينا (ت 428ه). ويجري التركيز على يقين العقل وصدق الشريعة عند ابن رشد، بغية تبيان موقف هذا الفيلسوف من الشريعة والحكمة، بوصفهما مجالين منفصلين عن بعضهما بعضاً، على رغم التقائهما في الغاية، وذلك من خلال فهمه العقلاني المستنير للدين، وبواسطة استناده إلى البرهان العقلي، وعلى خلفية رؤيته التي تفيد بأن سلامة الدين والفلسفة تتجسد في أن يفصل أحدهما عن الآخر، ذلك أن الفلسفة تعني الخاصة من الناس، في حين أن الدين يخاطب العامة منهم. وفي مجال علم الفلك، يجري التركيز على اهتمام علماء المسلمين بعلم الفلك في الأندلس، وهو اهتمام انتقل من المشرق إلى الغرب الإسلامي، من خلال انتقال المؤلفات المشرقية، التي اعتمدت على التراث اليوناني. ويبرز في هذا المجال أبو الريحان محمد بن أحمد البيروني (ت 440ه/ 1048م)، الذي اشتهر بكتابه «مقاليد علم الهيئة». ولا يقتصر الأمر على علم الفلك، بل يمتد إلى مختلف العلوم الإنسانية، التي شكلت حجر الزاوية في التراث العربي الإسلامي، وبخاصة علم التاريخ والجغرافيا، وعلوم الكلام والحديث وغيرها. أما في جانب التأثير الحضاري العربي الإسلامي على الغرب الأوروبي، لا سيما ما تم نقله من الأندلس وتأثيره؛ فقد خاض فيه العديد من الباحثين والدارسين، وكتب عنه كثير من الدراسات والمؤلفات، وبخاصة أثر الأندلس على التعليم والجامعات الأوروبية في العصور الوسطى، وعلى أنظمة الجامعات الأوروبية، إذ يجمع العديد من المؤرخين والباحثين، على أن مؤسسة «الجامعة» هي من مبتكرات الحضارة العربية الإسلامية، وأن التشابه بين الجامعات الإسلامية والجامعات الأوروبية التي نشأت بعدها لم يكن وليد الصدفة. كما أن معظم الكتب الجامعية التي كانت تدرس في جامعات أوروبا في القرون الوسطى، كانت مترجمة عن اللغة العربية. ويعود الاهتمام العربي بالعلوم عامة إلى نهاية العصر الإسلامي الأول، عندما أخذ الطابع المدني يغلب على الدولة الإسلامية، وبدأت العلوم العقلية والتطبيقية تأخذ مكانها إلى جانب العلوم الدينية، فيما بقي الجامع موضعاً للعلوم الجديدة، لكن العديد من المدارس العلمية أنشئت لتحقيق المزج بين مختلف العلوم وعلوم الدين الإسلامي. وتحولت المساجد الجامعة في المدن والعواصم الإسلامية الكبرى إلى نوع من الجامعات الإسلامية، وذلك بعد تزايد أعداد طلاب العلم، من سكانها الأصليين ومن الغرباء، في المساجد الجامعة التي باتت مشهورة في ذلك الوقت. وكان أشهرها جامع الأزهر، وجامع القرويين، وجامع الزيتونة، وجامع قرطبة، وسواها من كبريات المساجد الجامعة. وقد شكل كل واحدة منها نواة لجامعة إسلامية، ويعتبرها بعض الباحثين من أقدم جامعات العالم. وفي الأندلس، كانت المساجد الجامعة منذ قيامها، مثلما كانت عليه في المشرق، مراكز لدراسة العلوم الدينية واللغوية، لكنها تحولت مع الزمن إلى جامعات علمية، وبدأت منذ أوائل القرن الرابع الهجري تجذب الطلبة والدارسين إليها من مختلف أنحاء شبه الجزيرة الإيبيرية وبلاد المغرب العربي، وكذلك من بعض أنحاء أوروبا. وكان كثيرون من الطلاب المسيحيين يقبلون على الدراسات الأندلسية التي كانت متفوقة في مناهجها ومقرراتها على دراسات الأديرة الأوروبية، اذ كانت تدرس في جامع قرطبة، في ذلك الوقت، مختلف العلوم الدينية والمدنية التي كانت معروفة، ومنها العلوم العقلية والتجريبية، واشتهر إلى جانب جامع قرطبة مجموعة أخرى من المساجد الجامعة في إشبيلية وبلنسية وطليطلة وسرقسطة وغيرها. ومن الطبيعي أن يصل صدى الجامعات العربية الإسلامية في الأندلس إلى البلدان الأوروبية، ويشهد على ذلك إنشاء جامعة مونبلييه، في أوائل القرن الثاني عشر، والتي اضطر القائمون عليها طلب المساعدة ومدهم بالأساتذة والخبراء من الدولة العربية الإسلامية في الأندلس، وجرى تلبية الطلب، وأرسل إلى جامعة مونبيليه عدداً من كبار الأساتذة المسلمين من مختلف الاختصاصات المعروفة، في ذلك العصر، وبخاصة الطب والعلوم والفلسفة. غير أن ظهور الجامعات الأوروبية تزامن مع بداية نهضة علمية كبرى في القرنين الحادي والثاني عشر الميلادي، وذلك بتدفق العلوم والمعارف الجديدة على بلدان أوروبا الغربية من طريق إيطاليا وصقلية، وتدفق عدد كبير من الأساتذة والعلماء من الأندلس. وكان نتاج تلك البدايات إنشاء أول كلية في باريس عام 1180م على يد اللورد «جون أوف لندن»، الذي كان عائداً من القدس. كما كان لجامعات الأندلس الأثر المباشر في إنشاء جامعة بلنسية في إسبانيا، وجامعة نابولي في إيطاليا. وقد ساهم في تعليم طلابها تدفق الكتب العربية من العالم الإسلامي عبر الأندلس، وظهر التأثير العربي الإسلامي على جامعة سالرنو الطبية، التي زخرت بالعلوم الطبية والعلمية العربية، وكان تنظيمها غير المترابط أقرب إلى المستشفى البغدادي. ودرس العديد من الباحثين والمستشرقين الأوروبيين مدى تأثر الجامعات الأوروبية بنظام الإجازة الإسلامي، وأرجعوا نشأة درجة الليسانس الموجودة في الجامعات الأوروبية إلى النظام الجامعي الإسلامي، بل واعتبر بعضهم أن أول اسم أطلق على الجامعة في أوروبا كان التعبير اللاتيني Studium Géneral وهو ترجمة للمصطلح العربي «مجلس العلم».