عن أزمة الهوية في عالمنا العربي كنا نتحدث في ندوة فكرية دعت لها مؤسسة ثقافية مصرية في أعقاب الأحداث الأخيرة التي واجهها المسلمون في أوربا، سواء قضية منع المآذن في سويسرا أو الحملة على الحجاب والنقاب أو بعض التحديات التي تظهر على سلوكيات الأجيال الجديدة في بلادنا، ولكني وجدت في كلمتي أن القضية لا بد وأن تعود إلى السؤال الأول والمدخل، وهو: هل نعاني فعلا من أزمة هوية؟، كانت قناعتي الشخصية، التي أسستها على رصد واقع الأمة وتحولاته ومظاهره، أننا لا نعاني في الحقيقة أزمة هوية، رغم بعض الشطط والنزق الثقافي أو السلوكي أو اللغوي الذي يمارس من باب المراهقة بين شرائح وأجيال مختلفة، وإذا كان هناك من يعاني أزمة هوية حقيقية فهي أوربا وليس العالم الإسلامي، وما يحدث الآن من عمليات تحرش متتالية بالمظاهر السلوكية الإسلامية في العالم الغربي هو أحد تجليات الإحساس بالأزمة وخطرها على المجتمع الأوربي، لقد كانت دراسات المستشرقين الجدد تلاحظ الصعوبات التي تواجهها الحداثة الغربية ونمطها الحضاري في بسط سيادتها على المناطق الإسلامية من العالم، رغم هيمنتها المطلقة على العالم كله، مدفوعة بتفوق مدني وتفوق علمي وتفوق اقتصادي وتفوق إعلامي وتفوق فني وتفوق تنظيمي وسيادة سياسية شاملة، ومع ذلك تبقى عاجزة عن اجتياح نمط الحياة الإسلامي أو كسر أعمدته الأساسية في السلوك أو التدين أو الوعي أو الموقف من الحضارة الغربية، رغم النجاح في تحقيق اختراقات عديدة في كل المستويات وتأثر نخب ثقافية أو سياسية أو تعليمية ببعض أنماط الحضارة الغربية، وكان حجاب المرأة المسلمة بشكل أساس يمثل رمزية حادة ومتحدية يتشخص فيها هذا الصمود للهوية الإسلامية، الآن انتقل تحدي الهوية إلى قلب أوربا، وبدأت مظاهر الإسلام الثقافية والاجتماعية والإنسانية والدينية تبسط حضورها في المجتمع الأوربي، من أول الحمامات وأساليب التطهر وانتهاء بالمطاعم وتقاليد تناول الطعام مرورا بالشارع نفسه وسمته وصورة البشر فيه، إضافة إلى انتشار الإسلام كدين بين قطاعات غير قليلة من الأوروبيين بمن فيهم النخبة الثقافية والدينية والرياضية والفنية والديبلوماسية، ومن هنا كان القلق من تحديات تاريخية تواجه الهوية الأوروبية في عمقها، ومن هنا أيضا بدأت عمليات التحرش بمظاهر السلوك الإسلامي السلمي، وعمليات التضييق الشامل على أية هجرات بشرية تحتاجها أوروبا من العالم الإسلامي ودوله واستبدالها بهجرات مكثفة من أوروبا الشرقية ، فإذا كانت هناك أزمة هوية حقيقية فهي هناك وليست هنا، وإن كان ذلك لا يمنع من وجود تحرشات أو تهديدات للهوية الإسلامية في بلادنا، بفعل الإغراق الثقافي والفني واللغوي والدعائي والإعلامي الرهيب الذي ينطمر على أمتنا الإسلامية كسيل جارف لا تعرف كيف توقفه، وهو ما يستدعي من المخلصين في هذه الأمة بذل المزيد من الجهد الفكري والمعرفي والتربوي والديني والإعلامي أيضا من أجل احتواء هذه المخاطر وتحجيم آثارها على هويتنا العربية المسلمة.