مع بدء الثورات العربية؛ عاد التيار السلفي الجهادي إلى المشهد الإعلامي من جديد، إذ سارعت قياداته في الأردن إلى تبني سلمية الدعوة، في تحول ساهم به «الربيع العربي»، وفق مراقبين لشؤون الحركات الإسلامية في المملكة الهاشمية. وعلى وقع الربيع الأردني أيضاً، شهدت شوارع العاصمة عمان ومناطق أخرى من المملكة تظاهرات غير مسبوقة للتيار الجهادي - الذي حمل تاريخياً فكر تنظيم «القاعدة» - رفعت فيها أعلام «القاعدة» بالقرب من دار الحكومة، ودعت إلى تحكيم الشريعة الإسلامية، لكنها سرعان ما جوبهت بالقوة من جانب الأمن الأردني. نجح الجهاديون في تنظيم اعتصامات متعددة منذ بداية آذار (مارس) العام الماضي، وشكلت مسيرة دعوا إليها أمام المسجد الحسيني وسط العاصمة باكورة فعالياتهم، التي حظيت بتغطية إعلامية غير مسبوقة، ما أغرى القيادات الجهادية وفق خبراء في التيار، ودفعها إلى الاستمرار بهذا الطريق. رفض التكفير وتحولت مسيرة لهم انطلقت في نيسان (ابريل) الماضي في مدينة الزرقاء، إلى ساحة صراع مع قوات الأمن وعدد من المناوئين لهم، ما أدى إلى وقوع إصابات بين الأمن والجهاديين واعتقال العشرات منهم. اتخذ التيار منحى جديداً في فكره، من خلال نزوعه نحو الانفتاح على المجتمع وتبني العمل السياسي، وتوالت تصريحات قيادات التيار التي تركزت في مجملها حول رفض تكفير المجتمعات، وحصر النشاط القتالي في فلسطينالمحتلة والدول العربية والإسلامية التي يتواجد فيها جنود للجيش الأميركي. وفي تطور لافت؛ كشفت قيادات جهادية ل «الحياة» أن مساعي حثيثة تبذل للإعلان عن مجلس شورى وقيادة سياسية تمثل أعضاء التيار، والموقوفين منهم داخل السجون على خلفية تهم تتعلق بالإرهاب. إلا أن تلك المساعي تصدت لها - وفق المصادر - مجموعات قليلة ما زالت تراهن على السلاح داخل المجتمعات العربية، بعدما نبذه الزعيم الروحي للجهاديين عصام البرقاوي الملقب ب «أبو محمد المقدسي»، الذي يقضي حكماً بالسجن لإدانته بتهم تتعلق بدعم المقاتلين في أفغانستان. ووفق معلومات مؤكدة؛ فإن تلك المجموعات تخشى على أفكارها مما أنتجه «الربيع العربي»، محاولةً «فرض آرائها التكفيرية، والتبرؤ من العمل السلمي». ويشهد التيار السلفي انقساماً بين خط منظّر التيار الأبرز المقدسي الذي يتبنى العمل السلمي والدعوي، وبين خط القيادي الأردني في تنظيم «القاعدة» الذي قتل عام 2006 في العراق أبو مصعب الزرقاوي، الذي تبنى العمل المسلح، ونظّم عمليات عسكرية عدة على الأرض الأردنية. لكن نشطاء في التيار يؤكدون ل «الحياة» أن أنصار «السلفية الجهادية» والمنخرطين فيها، تتراوح أعدادهم على الساحة الأردنية بين 2000 و3000 ناشط. ويقر هؤلاء بأن التيار لا يمتلك «حاضنة اجتماعية» في المملكة، ما يجعله غير فاعل، لكنهم في الوقت ذاته يحمّلون مسؤولية انتشارهم المحدود للأجهزة الأمنية التي أعلنت عليهم حرباً لا هوادة فيها، منذ أن تبنى أبو مصعب الزرقاوي تفجيرات فنادق عمان عام 2005. ويخلص مراقبون إلى أن التحولات التي شهدتها «السلفية الجهادية» ليست محصورة بتيار الأردن، فمقتل أسامة بن لادن «أسدل الستار على مرحلة صعود القاعدة والسلفية الجهادية التي نتجت انعكاساً لفشل الأنظمة العربية وسوء إدارتها»، وهو ما تؤكده دراسة حديثة أعدها الباحث في مركز الدراسات الإستراتيجية في الجامعة الأردنية والمتخصص في الجماعات الإسلامية محمد أبو رمان، أشارت إلى مراجعات مهمة لدى التيار. القيادي البارز في التيار الدكتور منيف سمارة، يؤكد ل «الحياة» تأثر الكثير من أتباع السلفية بما حققته الثورات العربية، إذ «شكلت لهم فرصة سانحة للنزول إلى الشارع، والتواصل مع مكونات المجتمع». يقول: «جهات عدة كانت تسيء إلى أفكارنا، وتصيغها وفقاً لما يريده بعض الأجهزة الأمنية». ويرى القيادي الجهادي أن الجماعات المسلحة التي وجدت لها موطئ قدم داخل المجتمعات الآمنة «فشلت في توصيل رسالتها؛ في ظل إعلام يصفها بأنها إرهابية ومستبيحة للدماء». ويجزم بأن «الربيع العربي» مكّن التيار من محاكاة واقع جديد لم يكن موجوداً من قبل. ويجادل: «من وجهة نظري لا مصلحة في زج الشباب بالسجون، ولا مصلحة من إشهار السلاح لتبني وجهات نظر معينة». دراسة محمد أبو رمان تحدثت عن مجموعة قيادية أعلنت القبول بمبدأ «سلمية الدعوة» ورفض العمل المسلّح في الأردن، ومراجعة جملة من أفكار التيار من دون التراجع عن البنية الأيديولوجية الصلبة التي تأسس عليها. استندت الدراسة إلى وثائق أعدها المقدسي تتضمن «رفض العمل المسلح، والإيمان بالعمل السلمي، ومواجهة التطرف في التكفير»، معتبراً أنها «وثيقة مهمة في تحويل مسار هذا التيار في المرحلة المقبلة». بيد أن الدراسة لم تتوقع أن يصل المقدسي والمجموعة القيادية المؤيدة له؛ إلى ما وصلت إليه مراجعات الجماعة الإسلامية في مصر من تحولات بنيوية في خطابها الأيديولوجي، فضلاً عن التحول على نحو جماعة الإخوان المسلمين التي أعلنت قبولها بالديموقراطية. لكنها اعتبرت أن «القبول بمبدأ سلمية الدعوة؛ من شأنه أن يحدّ من العمل المسلح، ويسمح بمسار جديد من التحولات لدى هذا التيار، ما قد يجعل منه لاحقاً تياراً يمينياً محافظاً، لكنه سلمي، وهذا تطور مهم وحيوي». التغيير في النصوص ويقف الباحث على نصوص للزعيم الحالي للقاعدة أيمن الظواهري، ومفتيها أبو يحيى الليبي، ومنظّرها أيمن العولقي الذي قضى في اليمن في غارة شنّتها طائرة أميركية في ايلول (سبتمبر) الماضي. ويقول أبو رمان ل «الحياة» إن «التحول الأيديولوجي الذي قام به قادة السلفية الجهادية؛ لا يمسّ البنية الصلبة في أيديولوجيتهم والمتمثلة بتحكيم الشريعة الإسلامية، والتشديد على العداء مع الولاياتالمتحدة والغرب، واتهامهم بمعاداة إقامة الدولة الإسلامية المطلوبة، ورفض وتكفير أي نظام غير النظام الإسلامي الصلب، وتأكيد أهمية الجهاد في مواجهة القوى الدولية». ويتحدث الخبير في شؤون الجماعات الإسلامية حسن أبو هنية عن تطور لافت في عمل «السلفية الجهادية»، مشيراً إلى أن التيار تأثر بالثورات «بعد أن تمكنت شعوب من قلب أنظمة، وخلع زعماء بطريقة سلمية». لكن أبو هنية يعتقد بأن تطور فكر التيار «يزعج الأجهزة الأمنية وبعض أركان الدولة». ويقول ل «الحياة» إن «تلك الأجهزة تريد أن يبقى ملف الجهاديين في إطار الرؤية الأمنية، ليسهل محاصرتهم وقمعهم واعتقال قياداتهم في أي لحظة». وقررت محكمة أمن الدولة أخيراً إخلاء سبيل 12 موقوفاً من التيار السلفي، كانوا يحاكمون على خلفية اشتباكات مع رجال الأمن في مدينة الزرقاء. ويبلغ عدد الموقوفين على ذمة تلك الاشتباكات حالياً 12 من أصل 103 تم الإفراج عنهم خلال فترات سابقة.