في حي الزواهرة المطل على سجن بيرين وتلال العاصمة الأردنية عمان كان اللقاء مع واحد من قياديي التيار الجهادي يدعى منيف سمارة، وهو طبيب عام يمتلك في المدينة ذاتها مركزاً طبياً يعالج فيه مجاناً أفواجاً من الفقراء واللاجئين السوريين، الذين يقصدون المدن الأردنية هرباً من أعمال العنف التي تشهدها بلادهم منذ أكثر من عام. لقاؤنا الطبيب سمارة لم يكن عابراً أو كغيره من اللقاءات التي جمعتنا بقيادات وعناصر التيار المراقَبين من جهاز المخابرات العامة، فالرجل الذي ارتدى الثوب الأفغاني - وهو عبارة عن قميص طويل وسروال قصير - وأرخى لحيته إلى حد يستطيع أن يقبض عليها بيده تطبيقاً لسنّة الإسلام كما يقول؛ كشف للمرة الأولى في تاريخ التيار عن وثيقة يتخلى الجهاديون بموجبها عن العمل المسلح في الأردن. قال إنها صيغت بخط يد المرشد الروحي للجهاديين عصام البرقاوي الملقب ب «أبو محمد المقدسي» والمعتقل حالياً في السجون الأردنية بتهم تتعلق بالإرهاب. ساعات طويلة قضيناها برفقة سمارة الملقب ب «أبو خالد» متنقلين في سيارته السوداء الأميركية بين مركزه الطبي ومنزله الفاره المطل على منطقة بيرين، وبين مسجده القريب من المنزل الذي يحرص على أن يؤدي فيه كل الصلوات. وفي ذلك اليوم المشمس تحدث الرجل كثيراً عن قضايا تتعلق بمراجعات المقدسي وموقف الجهاديين مما يجري في سورية. على مائدة الطعام التي أعدّتها زوجته الفرنسية التي مثُلت مراراً أمام قسم مكافحة الإرهاب في المخابرات الأردنية، بتهم ترجمتها مؤلفات المقدسي إلى اللغة الفرنسية، تحدث سمارة عن إدانة الأخير لأعمال العنف في الأردن، وقال إن أعداداً من الجهاديين قرروا الهجرة إلى «الأراضي الشامية»، ليقاتلوا إلى جانب «إخوانهم من أهل السنّة والجماعة». ويبدو أن التغيرات التي طرأت على المقدسي، جاءت تؤكدها الوثيقة التي حصلت «الحياة» على نسخة منها، بعدما أكد صحتها الكثير من قيادات التيار. صفحات الوثيقة تحدثت عن رفض المقدسي لما سمّاه «الأعمال المادية العشوائية ضد النظام الأردني»، وهو ما اعتبره خبراء في شؤون التيارات الجهادية تحولاً جذرياً لدى قيادة التيار، التي طالما تبنت في السابق أعمالاً تفجيرية على الأراضي الأردنية. نقاط عدة تضمنتها الوثيقة، أهمها قول المقدسي إن «ساحة الأردن حساسة، وهي على قرب من ساحات كثيرة مشتعلة، وهي أرض رباط وإسناد لصمود إخواننا في فلسطين، لذلك يجب التأكيد أن ليس من إستراتيجية دعوتنا في هذا البلد؛ الأعمال المادية العشوائية ضد النظام». كما تضمنت رفض المقدسي «استهداف مؤسسات النظام أو ضباطه أو نحو ذلك من الأعمال المادية، والتجارب التي زجت بكثير من الشباب في السجون من دون أي فائدة للإسلام والمسلمين، بل إنها كلفتهم زهرة شبابهم، وخسائر لا تعد ولا تحصى». وسطاء الوثيقة التي عنونها المقدسي بعبارات «ميثاق أو منهاج أو توجيهات وإرشادات» أشارت إلى وجوب تضمنها خطوطاً عريضة «لضبط الدعوة والشباب، وتجنيبهم العشوائية والفوضى والأعمال المادية». وقد حذرت الوثيقة من «الفتوى بلا علم، والخوض في مسائل التكفير لما يبنى عليها من استحلال الدماء والأموال». مصادر مقربة من مطبخ صنع القرار الأردني، كشفت ل «الحياة» أن المقدسي أرسل نسخاً من الوثيقة المذكورة عبر وسطاء إلى الديوان الملكي والحكومة اللذين رحبا بها، في حين أعلن جهاز المخابرات العامة تحفظه على الكثير من البنود التي تضمنتها الوثيقة، وطالب مُصدرها بالمزيد من التراجعات. التحفظ الأمني المذكور كشفت عنه وثائق أخرى مطبوعة حصلت «الحياة» على نسخ منها، تضمنت شروحات موسعة من جانب المقدسي للوثيقة الأولى المكتوبة بخط يده. وقد ظهرت على الوثائق ذاتها توصيات أمنية كتبت بخط اليد، تضمنت شطباً وتعديلاً وإضافة على البنود. وأظهرت إحدى الصفحات اعتراض المؤسسة الأمنية على بند قال فيه المقدسي بضرورة «التعريف بنعم الله على التيار الجهادي في الأردن»، وهو ما اعتبر أمنياً إصراراً من المقدسي على «عدم الاعتراف بأخطاء التيار». وعندما «حذرت» الوثيقة من استهداف مؤسسات النظام، ظهرت توصية أمنية أخرى تدعو المقدسي للانتقال من مربع التحذير إلى إصدار فتوى «تحرم الاعتداء على مؤسسات الدولة». كما دعا المقدسي إلى إضافة عبارات تؤكد أن أفراد الأجهزة الأمنية من «أبناء جلدتنا» وأن ما يتضمنه الميثاق بعد إجراء التعديلات الأمنية المطلوبة سيكون ملزماً للتيارات الجهادية في الدول الأخرى، الأمر الذي رفضه المقدسي، وفقاً لمقربين منه. محمد أبو رمان أعد دراسة مطولة عن تحولات التيار السلفي الجهادي في الأردن، وهو أحد الوسطاء الذين زودوا الجهات الرسمية بوثيقة المقدسي. يقول إن «جهات في الدولة رفضت التعاطي مع الوثيقة التي تبنت سلمية الدعوة». وبرأيه، فإن قضية السلفيين في الأردن «ليست حقوقية، وإنما قضية سياسية يعاقب عليها التيار بسبب توجهه إلى العمل السلمي». ويشرح أبو رمان أن ثمة في السلفية الجهادية «جيلاً قيادياً جديداً يؤمن بسلمية الدعوة». ويرى القيادي الشاب وسام العموش وهو أحد أبرز الجهاديين الذين اعتقلوا لسنوات في سجن غوانتانامو، أن أجهزة الأمن ترفض توجه التيار السلفي الجهادي نحو السلمية باعتباره «بئر النفط الكبير الذي يجلب لها الأموال من الخارج، لمكافحة ما يسمى الإرهاب». السلفي الجهادي الدكتور صلاح العناني يؤيد سلفاً وثيقة المقدسي، ويقول إن تياره «يرفض أي أعمال عنف على الأرض الأردنية». ويقرر العناني أن «حلبة الجهاد مقتصرة على قتال الصهاينة والاحتلال في أفغانستان والعراق، وغيرهما من دول الإسلام التي يتعرض فيها المسلمون للقتل والتعذيب». وعلى رغم وجود تيار عريض في السلفية الجهادية يتبنى الخيار السلمي في الأردن تمثله القيادات الجهادية المعروفة (تيار أبو محمد المقدسي)؛ فإن هناك تياراً آخر يغلب عليه العنصر الشبابي يدعو إلى التمسك بالعمل المسلح (تيار أبو مصعب الزرقاوي). قيادات هذا التيار ترفض بشدة التحدث إلى وسائل الإعلام خوفاً من الكلفة الأمنية الباهظة التي قد يدفعونها، مؤكدين كفر (الطوائف والأعيان) في إشارة إلى مؤسسات الجيش والأمن والعاملين فيها. وهم يرون استناداً إلى أدبياتهم؛ جواز استهداف مؤسسات النظام الحساسة، وعلى رأسها مقرات الأمن والمخابرات. خيانة وتآمر وأخيراً ظهرت على مواقعهم ومنتدياتهم الإلكترونية، انتقادات شديدة لتيار المقدسي الذي اتهموه بالخيانة والتآمر على «الجهاد»، تحت أسماء مرّكبة عرف منها «أبو قدامة الأردني» و «أبو الجراح الفلسطيني» و «المهند الياسر». ويقول أحد هؤلاء الذين التقتهم «الحياة» إن «الجهاديين في الأردن لن يقايضوا على مواقفهم، وإن الدعوة بالسنان ستبقى من أهم وسائلنا لتطبيق الشريعة». ووسط احتدام الجدل بين تياري السلفية الجهادية؛ فإن ملفاً كالشأن السوري بدأ يعتبره الجهاديون عامل تجميع ووحدة لجميع المنخرطين في التيار. وهنا يتحدث القيادي سمارة بوصفه في الدائرة الأقرب الى المقدسي وحافظ أسراره، عن مقتل اثنين من أعضاء التيار الأردني في سورية خلال الأسبوع الفائت، هما عبدالله عزام الخلايلة من مدينة الزرقاء، وحمزة المعاني من مدينة معان الجنوبية. ولا يتردد سمارة في القول بأنهما «قضيا شهيدين» بعدما شاركا في قتال الجيش السوري النظامي. ولا يستبعد أيضاً سقوط قتلى آخرين من التيار الأردني. معلومات أكيدة حصلت عليها «الحياة» من قيادات التنظيم السلفي، تحدثت عن اعتقال الأمن الأردني أخيراً خبير المتفجرات الأول في التيار الجهادي عبدالله قباعة و8 آخرين من السلفيين، بالقرب من الشريط الحدودي بين الأردن وسورية، أثناء محاولتهم التسلل إلى الجارة الشمالية، للقتال ضد النظام السوري. ويتحدر قباعة الذي أنهى عقده الثالث من مدينة معان، وقد تنقل بين أفغانستان والعراق. وتفيد المعلومات بأنه شارك في القتال إلى جانب أبو مصعب الزرقاي، الذي قضى في بغداد عام 2006. في شمال المملكة حيث مدينة إربد التي تبعد عن درعا السورية بضعة كيلومترات، نفى القيادي الجهادي عبد الشحادة المعروف ب «أبو محمد الطحاوي» علمه بالموضوع، وقال بضرورة المشاركة في ما سمّاه (جهاد الدفع) في أي دولة كانت عن تحقق المقدرة. ويتحقق جهاد الدفع وفق الطحاوي حينما «يصول الحاكم على دماء المسلمين وأعراضهم، وعندما لا يطبق الشريعة».